النظرية الأمنية الاسرائيلية 1
صفحة 1 من اصل 1
النظرية الأمنية الاسرائيلية 1
النظرية الأمنية الإسرائيلية
Middle East Review of International Affairs, Vol. 5 No. 3 (September 2001)
الكاتب: ديفيد رودمان
واجهت إسرائيل عبر تاريخها تحديات كبيرة لأمنها القومي، ورغم ذلك، فهي لم تقم أبداً بالإعلان عن جميع عناصر نظريتها الأمنية القومية. غير أن تعاطيها مع تلك التحديات لم يكن أبداً عشوائياً، حيث توجد مجموعة من المفاهيم الأمنية التي ساعدت في التعرف على السلوك الإسرائيلي فيما يتعلق بالصراعات الصغرى والكبرى والحروب التي تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، علماً بأن الجانب العملياتي "لبعض هذه المفاهيم ظل مستقراً" على مدى الأيام ، بينما تطورت مفاهيم أخرى لتتماشى مع الظروف الداخلية والخارجية المستجدة للدولة.
تكاد لا توجد هناك دولة، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قلقت على أمنها القومي أكثر من إسرائيل، وليس من الصعب سبر غور ذلك. فلقد خاضت إسرائيل منذ نشأتها قبل نصف قرن حروباً شاملة ضد جيرانها العرب. خاضت حرب الإستقلال 1948-1949، ثم حملة سيناء 1956، وحرب عام 1967 وحرب الإستنزاف عام 1969 وحرب 1973 ثم حرب عام 1982. بمعنى آخر، خاضت إسرائيل كل عشر سنوات حرباً شاملة خلال العقود الخمسة من عمرها، ناهيك عن مشاركتها السلبية على الأقل في حرب الخليج عام 1991 عندما قصف العراق أراضيها بالصواريخ البالستية، وربما تكون قد شاركت بفاعلية في البحث عن تلك الصواريخ وتدميرها في غربي العراق. علاوة على ذلك ورغم معاهدتي السلام الرسميتين بين إسرائيل من جهة ومصر والأردن من جهة أخرى، وكذلك تفوقها بلا منازع في مجال الأسلحة التقليدية، فقد ظل تهديد نشوب حرب إسرائيلية-عربية تهديداً حقيقياً لغاية الآن. كما توسع هاجس الأمن القومي الإسرائيلي وامتد ليتعدى ساحة المعارك التقليدية. فعلى الطرف المنخفض لطيف الحرب غير التقليدية، تتعرض إسرائيل لموجة عنف مستمرة على شكل إرهاب وحرب عصابات (فلسطينية ولبنانية ترعاها في أغلب الأحيان دول عربية وايران) وكذلك لعصيان مسلح (فلسطيني) ومناوشات حدودية (مع مصر وسوريا ولبنان والأردن). وعلى الطرف التالي لطيف الحرب غير التقليدية، تواجه إسرائيل، ومنذ الستينات خطر الحرب الكيماوية بعد إستخدام مصر للغازات السامة في اليمن واستخدامها كذلك من قبل جهات أخرى في حرب الخليج. وبرز خطر الحرب الجرثومية والنووية كتهديد حقيقي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. لقد تعاملت إسرائيل مع خطر التهديد النووي بجدية تامة أوائل الثمانينيات لدرجة أنها أرسلت طيرانها الحربي لتدمير المفاعل النووي العراقي أُوزيراك في ربيع عام 1981. ومهما يكن من أمر، فإن الافتقار إلى نظرية أمنية قومية رسمية وكذلك تأثير خبرات الدولة وبيئتها أقنعا المخططين العسكريين الإسرائيليين بدراسة سُبل صياغة طاقم من المفاهيم الأمنية الاساسية. فمن ناحية، كانت هذه المفاهيم تشكل تعاطي إسرائيل مع المناخ الجغرافي و السياسي والبيئي الذي لابد أن تعيش فيه. ومن ناحية أخرى فإن تجارب الدولة وقت الحرب ووقت السلم ساعدت في تشكيل نمط هذه المفاهيم. وبما أنها تطورت خلال منعطفات زمنية متعددة ولم تدمج ضمن قضايا مرتبطة ببعضها تمام الإرتباط كنظرية أمنية قومية متناسقة ومرتبة، فقد وجهت هذه المفاهيم وقادت التفكير والسلوك الإسرائيلي منذ نشأة الدولة لدرجة أنه يمكن تنظيمها و تنسيقها في إطار خاص وتحت عناوين ثمانية متميزة وهي: الجغرافيا، القوة البشرية، الكم ضد النوع، المناورة الهجومية، الردع، التهديد التقليدي في مواجهة التهديد غير التقليدي، الإعتماد على النفس ودعم القوة العظمى. وبناء على هذا الأساس، فإن هدف هذا المقال يتجلى في وصف وتحليل هذه المفاهيم من زاوية تاريخية، بمعنى تقصي تطورها ودراسة أسباب صمتها وسكونها بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي على إمتداد سنوات عُمْر الدولة.
ينبغي في هذا السياق التركيز على أمرين مهمين: الأول وهو كما ورد في أسماء العناوين، أن هذا المقال يُعرِّف مفهوم الأمن القومي تعريفاً ضيقاً، إذ أن النظرية الأمنية بمعناها الفضفاض تضم في طياتها كافة السياسات العسكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية ويتضح منها أنها تهدف إلى حماية وتعزيز المصالح الأمنية القومية للدولة.
حسب ما ورد في هذا المقال، فإن مفهوم الأمن القومي ينحصر في مجال الدفاع القومي مع أنه يركز على النظرية العسكرية الإسرائيلية. الثاني: رغم محدودية الناحية التفسيرية لهذا المقال، فإنه لا يمكن أن يقال أنه أعطى شرحاً كاملاً لهذه العقيدة بل سلط الأضواء على المفاهيم الأساسية التي تشكل نواة هذه النظرية.
الجغرافيا:
لقد تأثرت النظرية العسكرية الإسرائيلية من الناحية التاريخية بالوضع الجغرافي، ورغم أنها خرجت من حرب الإستقلال 1948-1949 منتصرة وحصلت على كم من الأراضي يتجاوز ما خصص لها بموجب قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947، فإنها واجهت الكثير من المشاكل الحدودية بعد هذه الحرب. لم يكن من السهل الدفاع عن هذه الحدود الطويلة. وخير دليل على ذلك مدى السهولة التي إستطاع بها حتى المتسللون العرب عديمو الخبرة من إجتياز الأراضي الإسرائيلية إبان الفترة الأولى من قيام الدولة. أضف إلى ذلك إفتقار إسرائيل إلى العمق الاإستراتيجي، إذ أن عرض الدولة يضيق كثيراً في بعض المناطق ليصل إلى بضعة أميال ولا يتعدى عشرات الأميال في أفضل الأحوال، كما أن أهم مراكز التجمعات السكنية والمرافق الصناعية والعسكرية تقع ضمن مرمى الجيوش العربية، هذا الوضع الجغرافي أَرغم المخططين العسكريين الإسرائيليين في بداية الأمر على التوصل إلى استنتاج وهو أن إسرائيل لا تستطيع أن تخوض حرباً شاملة، أو حرباً مهما صغرت، على أراضيها. فالحرب الصغرى التي قد تدور رحاها على الأراضي الإسرائيلية، كما يرى المخططون العسكريون الإسرائيليون، ستضر كثيراً بالمجتمع الإسرائيلي في حين أن الحرب الشاملة ستقوض وستعرض بقاء الدولة للخطر. هذا التفكير هو الذي نفخ الروح في المفهوم الذي ينادي بضرورة نقل الحرب إلى الأراضي العربية مهما يكن الأمر. ولقد أثر هذا جداً على الأسس العملياتية والتكتيكية الخاصة بالجيش الإسرائيلي. بالنسبة للحرب الشاملة، شكل الوضع الإقليمي الإسرائيلي في الفترة الواقعة ما بين الأعوام 1949 إلى 1967 جزءاً من تفهُّم حرصها وتفسيرها للحربين الوقائية والإستباقية خلال هذه السنوات. فإسرائيل تختلف عن الدول الأخرى التي لها إما حدود تتيح لها منع جيوش مهاجمه من إختراق أراضيها مثل سويسرا مثلا، وأما أن يكون لها عمق إقليمي يمكن أن يتقهقر جيشها إليه ليعيد تجميع نفسه وبالتالي طرد الجيش المعادي من أراضيه مثل روسيا. فإسرائيل ما قبل عام 1967 لم تكن تمتلك أياً من هاتين الميزتين. ومن ثم كان لابد لها من أن تخوض حرباً وقائية عام 1956 وأخرى استباقية عام 1967.
فيما يتعلق بالحرب الصغرى، فقد عزز الوضع الجغرافي الإسرائيلي في الفترة الواقعة ما بين 1949-1967 من حرصها على مبدأ الرد. ولأن الجيش الإسرائيلي لا يملك الطاقة البشرية ولا الموارد المادية التي تساعدها على إحكام إغلاق حدودها ضد متسللين مسلحين، فقد توصل المحللون العسكريون والخبراء في الجيش الإسرائيلي إلى إستنتاج وهو أن إسرائيل بحاجة إلى تعاون الدول العربية المجاورة من أجل إستتباب الأمن والسلام على حدودها. لذلك حاولت إسرائيل ارغام الدول العربية على وقف أعمال التسلل هذه، وذلك عن طريق فرض ثمن يمكن أن تدفعه شعوبها وجيوشها من وراء الرد على أعمال التسلل.
لقد غيرت نتيجة حرب عام 1967 الوضع الإقليمي للصراع العربي الإسرائيلي تغييراً جذرياً. فإسرائيل لم تحطم فقط الجيوش المصرية والسورية والأردنية، بل أيضاً إستطاعت إحتلال مساحات لا بأس بها من أراضي تلك الدول، إذ انتزعت سيناء وقطاع غزة من مصر والضفة الغربية من الأردن ومرتفعات الجولان من سوريا الأمر الذي وفر لها جزءاً من العمق الإستراتيجي، حيث لم تعد مراكز التجمع السكاني فيها والمرافق الصناعية والعسكرية في مرمى الجيوش العربية أو القوات غير النظامية فضلاً عن أن لإسرائيل الآن حدوداً تذود عنها. شكلت الحدود الجديدة مواقع طبوغرافية عسكرية فاعلة كقناة السويس ونهر الأردن والمناطق الجبلية في يهودا والسامرة والأهم من ذلك أن طول الحدود نفسها تقلص كثيراً.
في الوقت الذي لم يؤثر فيه وضع إسرائيل الإقليمي ما بعد عام 1967 كثيراً على الأسس العملياتية والتكتيكية للجيش الإسرائيلي فهو من ناحية أخرى أثر كثيراً على النظرية الأمنية. إذ أن حربين من أصل ثلاث حروب شاملة خاضتها إسرائيل في مرحلة ما بعد عام 1967 كانت بمبادرة عربية في حين بادرت إسرائيل لشن حربين من أصل ثلاث حروب سبقت عام 1967. الواقع هو أن الحرب الوحيدة التي بادرت إسرائيل إلى شنها بعد عام 1967 حدثت عبر الحدود مع لبنان حيث كانت إسرائيل هناك تفتقر إلى العمق الإستراتيجي، علماً بأنها كانت الحدود الوحيدة التي طالما تعرض فيها المواطنون الإسرائيليون بشكل روتيني إلى عمليات تسلل إرهابية وهجمات بالصواريخ. وللتأكيد فإن قرار إسرائيل بالمبادرة أو بعدم المبادرة إلى الحرب لم يقم فقط على أسس واعتبارات عسكرية. ومع ذلك يبدو جلياً أن الحصول على حدود دفاعية وعمق إستراتيجي في المرحلة التي أعقبت عام 1967 كبح نوعا ما النزعة الإسرائيلية لشن حرب وقائية أو إستباقية.
يبدو أن التوجه الإسرائيلي نحو النزاعات الصغرى لم يتغير بشكل ملحوظ نتيجة للتحولات الحدودية، كون الرد كوسيلة للتأثير على تصرفات العدو بقي أداة مركزية للتعامل مع الحروب الصغيرة في مرحلة ما بعد عام 1967. وبالنسبة لإنتشار تهديد الحرب النووية والبيولوجية والكيماوية على إسرائيل في الربع الأخير من القرن الماضي، يظهر أن العمق الإستراتيجي والحدود الدفاعية لم يكن لها تأثير ملموس على الأمن القومي للدولة.
إن أهم إنجاز تحقق من وراء كسب إسرائيل لحدود جديدة في مرحلة ما بعد حرب عام 1967 بالنسبة للأمن القومي لإسرائيل هو عزل البلاد وإبعادها عن خطر التقهقر الكارثي في حرب تقليدية شاملة. ففي حرب عام 1973، وفر العمق الإستراتيجي والدفاعي اللذان أتاحهما إحتلال سيناء ومرتفعات الجولان للجيش الإسرائيلي مجالا وحيزاً من الزمن كي يفيق من المباغتة والنكسة التي مني بها.
بيد أن السيطرة على سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية و مرتفعات الجولان خلقت مشاكل بحد ذاتها. إذ أن احتلال سيناء ومرتفعات الجولان وفر للدول العربية الأساس الذي تبنى عليه إتخاذ القرارات العربية بالمبادرة إلى شن حرب الإستنزاف ثم حرب أكتوبر 1973، فضلاً عن أن أعمال العنف الفلسطينية التي اندلعت أواخر الثمانينيات ولا زالت لغاية الآن، وكذلك حرب العصابات والإرهاب في منطقة الحزام الأمني في جنوب لبنان ما بين الأعوام 1995-2000 وضعت كلها مسألة الميزة الإستراتيجية التي نشأت عن السيطرة على أراضي يقطنها معادون موضع تساؤل.
على هذا الأساس تحركت النظرية الأمنية بخطى ثابتة باتجاه مبادلة الأراضي بمعاهدات سلمية رسمية (مصر والأردن) وتفاهمات غير رسمية (لبنان) يرافقها ضمانات أمنية مقبولة كالمراقبة الدولية والمناطق المنزوعة السلاح ومحطات الإنذار المبكر والتنسيق الأمني الثنائي..الخ. هذا التقلص المتزايد في الإهتمام والتركيز على السيطرة على أراضي كرصيد أمني قومي يعني أنه لو خاضت إسرائيل حرباً شاملة في المستقبل فمن غير المحتمل أن يكون بين أهداف هذه الحرب إحتلال أراضي، بل قد يركز الجيش الإسرائيلي على تحطيم الجيوش العربية وبنيتها العسكرية وربما على تدمير البنيات التحتية الإقتصادية والسياسية للدول العربية كوسيلة أكثر نجاعة لضمان الأمن القومي الإسرائيلي.
الطاقة البشرية:
كان تعداد الشعب اليهودي عام 1948 يتراوح ما بين 600 إلى 650 ألف نسمة في حين كان عدد سكان الدول العربية المجاورة يربو على عدة ملايين. هذا الخلل في التوازن الديمغرافي الذي لا تستطيع أية هجرة جماعية يهودية تعديله يعني أن باستطاعة العالم العربي المحافظة على وجود جيوش نظامية كبيرة الحجم. ولا يمكن لإسرائيل مضاهاة ذلك، وأية محاولة لبناء جيش كهذا سيقضي على قدرة الدولة على بناء إقتصاد سليم.
إستطاع المخططون العسكريون الإسرائيليون تذليل هذه العقبة الديمغرافية عن طريق تحويل الجيش إلى أشبه ما يكون بالمليشيات المسلحة إبان حرب الإستقلال. أما في وقت السلم (أي في ظل غياب حرب شاملة) فإن جيش الدفاع سيكون مؤلفا من عدد قليل من الجنود المحترفين يساندهم عدد أكبر من المجندين في الخدمة العسكرية الإلزامية على أن ينضم إلى هؤلاء المجندين والمحترفين عدد محدود من الإحتياط الذي يتعين على الجندي فيه قضاء عدة شهور في الخدمة العسكرية سنوياً كلٌ حسب الحالة الخاصة به. كل مواطن اسرائيلي، رجلاً كان أو إمرأة، هو بمثابة إحتياط بعد إنهاء خدمته العسكرية الإلزامية ما لم ينضم أو تنضم إلى الخدمة النظامية. الواقع هو أن الإسرائيليين كان يروق لهم في يوم من الأيام ترديد النكتة القائلة بأنهم أمة من الجنود تقضي إجازة مدتها 11 شهراً في العام. ويظل عدد الجنود في الجيش الإسرائيلي وقت السلم عند أدنى حد، كي لا يتشوش ويتعرقل التقدم الإقتصادي للبلاد.
للجيش الإسرائيلي وظيفتان رئيسيتان وقت السلم تتمثل الأولى في المسؤولية عن الأمن اليومي لإسرائيل وهذا يعني التعامل مع الحروب الصغيرة كالمناوشات الحدودية مع دولة عربية أو تنفيذ مهام ضد منظمة إرهابية أو قمع حشود جماهيرية. أما الثانية فتتمثل في الإعداد الجيد لحرب شاملة. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف ينبغي على الجيش التأكد من أن وحدات الإحتياط التي تشكل معظم القدرة القتالية للجيش الإسرائيلي يمكن تنظيمها في غاية السرعة والسلاسة ونشرها فوراً في ساحة المعركة. وبالتالي فإن الحفاظ على نظام تعبئة فعال هو أمر في غاية الأهمية من أجل تحقيق الهدف المرجو. ويستوجب الإستعداد للحرب أيضاً العديد من المهام مثل تدريب المجندين والإحتياط وصيانة المعدات والحفاظ عليها في حالة صالحة للإستعمال وتطوير الخطط العملياتية والتكتيكية.
إن جيشاً إسرائيلياً شبيهاً بالميليشيا يخدم الأمن القومي الإسرائيلي جيداً. فهو لم يقم بتنفيذ مهمة عظيمة تتمثل في حماية الدولة ضد الحروب الصغيرة والشاملة فحسب بل نفذ هذه المهمة دون التسبب في تشويش الحياة الاقتصادية على المدى الطويل. ومهما يكن من أمر، فإن هذا الحل الإسرائيلي لمشكلة الطاقة البشرية حمل في طياته أيضاً ثمناً سياسياً. فمن الناحية العسكرية، عهد الجيش الإسرائيلي ومر بتجربة دنا فيها من الكارثة في بداية حرب أكتوبر من عام 1973 لأن حجم قواته النظامية آنذاك كان صغيراً لدرجة لا تكفي لمعاجلة الضربة المفاجئة التي وجهتها مصر وسوريا.
أما من الناحية السياسية، فينبغي تسريح الجيش الإسرائيلي أو الزج به في الحرب خلال مدة قصيرة لأن الإقتصاد الإسرائيلي ببساطة لا يستطيع العيش في ظل تعبئة إلى أجل غير مسمى منتظراً أن تدور عجلات الدبلوماسية البطيئة. فحقيقة الأمر هي أن أورشليم لم تمتلك في يوم من الأيام رفاهية توفر الوقت أثناء الازمة.
ومع أن إسرائيل لازالت متمسكة جداً بجيش شبيه بالميليشيا، إلا أن هناك بوادر تغير في هذا الخصوص بدأت تلوح في الأفق منذ مطلع التسعينات. وطالما أعرب ضباط كبار عن آرائهم في أن يروا الجيش الإسرائيلي وقد أصبح منظمة أصغر حجماً وأكثر تنظيماً. بيد أن المعنى الدقيق لهذا الإصطلاح فيما يتعلق بمتطلبات الطاقة البشرية مستقبلاً مازال غير واضح، مع أنه يبرز الدلالة على الرغبة في الإعتماد أكثر فأكثر على الجنود المحترفين وأقل فأقل على المجندين الإلزاميين والإحتياط.
هناك سببان رئيسيان يكمنان وراء تفضيل جيش أكثر إحترافاً، الأول هو الزيادة الطبيعية في النمو السكاني والهجرة الجماعية، إذ تجاوز تعداد الشعب اليهودي الخمسة ملايين. يرى كثير من الضباط الإسرائيليون أن الدولة الآن لديها فائض في الطاقة البشرية العسكرية وهذا يشير إلى أن الجيش قد يكون قادراً مستقبلا على تنفيذ المهمة الملقاة على كاهله دون اللجوء إلى عملية تجنيد شاملة. الثاني هو أنه في الوقت الذي أصبحت فيه الحرب بشكل متزايد مسألة ترتكز على التكنولوجيا المتطورة، أصبح الجنود غير النظاميين من ناحية أخرى يجدون صعوبة أكثر فأكثر في تشغيل آخر ما توصل إليه العلم في مجال المعدات والأجهزة الخفيفة والثقيلة. ومع أن هناك فروعا في الجيش الإسرائيلي كسلاح الجو والبحرية والإستخبارات العسكرية تحتفظ بضباط إحتياط مميزين، إلا أنها كانت تعتمد منذ وقت طويل على الجنود المحترفين بسبب الطبيعة المعقدة جداً للمعدات العسكرية الثقيلة والخفيفة التي يحارب بها. أيضاً أصبحت وحدات العمليات الخاصة في الجيش أكثر إحترافاً من أي وقت مضى، عاكسة بذلك الدور السياسي الملح والحساس الذي تلعبه الآن في العسكرية الإسرائيلية. أن الأمر المؤكد مع ذلك، هو أن الجيش الإسرائيلي سيحتفظ وسيعتمد بشكل كبير على كادر ضخم من الإحتياط في المستقبل المنظور في حالة ما تأكد الجيش أن هناك احتمالاً لاندلاع حرب شاملة. بيد أن إستمرار إنتشار التكنولوجيا الفائقة بما في ذلك الأنظمة الإلكترونية المتطورة والأسلحة دقيقة التوجيه في الحروب، سيعمل على تقليص حجم الإحتياط في وقت بات فيه التجنيد أكثر انتقاءً، وفي وقت يتزايد فيه عدد الجنود المحترفين.
الكم ضد الكيف:
لقد تميز الصراع العربي-الإسرائيلي بعدم التوازن في الموارد العسكرية لاسيما في مجال الحرب التقليدية. كانت إسرائيل ولا تزال تمتلك عدداً أقل مما تمتلكه الدول العربية من حيث الجنود والعتاد. وللتعويض عن هذا النقص في الكم، دأب الجيش الإسرائيلي على البحث عن التفوق النوعي في العدة والعتاد وأصبحت الطاقة البشرية في الجيش الإسرائيلي أكثر ملاءمة وأكثر ثقافة دفاعية من نظيراتها العربية. فقد سعى المخططون العسكريون الإسرائيليون الذين إعترفوا بهذه الحقيقة إلى تثقيف وتدعيم الرصيد البشري في الجيش وقد إستفاد من هذا التفوق في نواحي عدة. أولاً، لقد عُرف الجيش الإسرائيلي بتدريباته الصارمة والقاسية لاسيما فيما يتعلق بالوحدات القتالية. على سبيل المثال فإن القسوة التي يلاقيها الطيار الإسرائيلي خلال تدريبه في سلاح الجو لا تضاهيها أي قسوة في أي سلاح جو آخر في العالم، ليس في الدول العربية فحسب. ثانياً يركز الجيش الإسرائيلي تركيزا شديداً ويولي عناية كبيرة في إختيار وتدريب ضباط الوحدات القتالية علماً بأن الدقة الشديدة في عملية الإختيار وتدريب الضباط ليس لها مثيل في أي جيش في العالم. ثالثاً، لقد تبنى الجيش الإسرائيلي منذ تأسيسه ولغاية الآن نمطاً حربياً على المستويين العملياتي والتكتيكي، بهدف تعظيم قدرته البشرية.
وبالنسبة للتفوق التسليحي فهذه ظاهرة أكثر حداثة حيث أن الأسلحة المتطورة للغاية التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي الآن طغت على حقيقة أن السلاح الإسرائيلي قبل حرب عام 1967 لم يكن متفوقاً على السلاح الذي كان بحوزة العرب آنذاك. وبينما كان العرب يتلقون آخر ما توصلت إليه الصناعات العسكرية السوفيتية، لم يكن أمام إسرائيل سوى الإعتماد على الأسلحة الغربية من الطراز الثاني ولم تكن الترسانة العسكرية الإسرائيلية تضاهي مثيلاتها في الدول العربية، الا في مجال سلاح الجو والمدرعات والإستخبارات. لقد حقق الجيش الإسرائيلي التفوق التكنولوجي بعد حرب عام 1967 عندما بدأت الولايات المتحدة في تزويد سلاح الجو الإسرائيلي بطائرات قتالية متقدمة. كما لوحظ التفوق التكنولوجي الإسرائيلي في المجال البحري بعد عام 1967 عندما أدخل سلاح البحرية إلى الخدمة زوارق الصواريخ السريعة المجهزة بالصواريخ المتطورة المضادة للسفن. أما في مجال الحرب البرية فلم يتحقق التفوق التكنولوجي الإسرائيلي إلا بعيد حرب عام 1973 بعد تقدم الإنتاج المحلي الضخم للأسلحة.
لقد لوحظت المساعي والجهود الإسرائيلية للحفاظ على تفوقها النوعي في ساحات المعارك، وعلى الرغم من أن إسرائيل عانت من بعض التراجع على صعيد الحربين الشاملة والصغيرة، إلا أنه لم يحدث أن مني الجيش الإسرائيلي بالهزيمة على يد القوة العسكرية العربية، بل كان المنتصر بلا منازع في حرب شاملة عدا حرب الإستنزاف التي آلت إلى طريق مسدود على طول قناة السويس وقد أبلى الجيش الإسرائيلي بلاءً حسناً في الدفاع عن البلاد خلال الحروب الصغيرة مع أنه لم يستطع على الإطلاق توجيه ضربة قاضية للمنظمات الإرهابية العربية.
ظل الجيش الإسرائيلي اليوم ملتزماً ومتمسكاً بمفهوم التفوق النوعي في العدة والعتاد. وبالرغم مما يشاع عن أن مستوى أداء جنوده تدنى في العقود القليلة الماضية، إلا أن الطاقة البشرية في الجيش الإسرائيلي هي في غاية الإستعداد الجيد كما كانت عليه في الماضي. فمن الناحية التكنولوجية، يعتقد أن الجيش الإسرائيلي متمسك الآن أكثر من أي وقت مضى بفكرة التفوق النوعي على الجيوش العربية، وهذا التركيز على النوع ينبغي أن لا يحجب حقيقة أن موقف الجيش الإسرائيلي من الكم تغير بعد حرب 1973. إذ أن تجربته المريرة في هذه الحرب ولاسيما في بدايتها عندما مني بخسائر جسيمة في العدة والعتاد أوصلته إلى قناعة بأن للكم ميزة بحد ذاته. في الربع الأخير من القرن الماضي زاد حجم الجيش الإسرائيلي بشكل ملحوظ لدرجة أن ترسانته الحالية تحتوي على أكثر من 800 طائرة مقاتلة و 2000 قطعة مدفعية و 4000 دبابة، الأمر الذي يضعها في مصاف كبرى الترسانات في العالم في وقت ينبغي أن يؤدي استمرار التمسك بالحفاظ على جيش أصغر حجماً وأكثر تنظيماً، إلى تقليص كمية السلاح مع مرور الزمن.
حرب المناورة الهجومية:
يبدو من قبيل التناقض أن لا تسعى دولة كإسرائيل أبداً لتوسيع أراضيها على حساب جيرانها العرب بقصد متعمد، وأن تظل متمسكة بحرب المناورة الهجومية. بيد أن تبنى الجيش الإسرائيلي لهذا النمط من الحرب على الصعيدين التكتيكي والعملياتي هو أمر معقول جداً، واذا أُريد معرفة السبب ينبغي الإدراك بأن الإعتبارات الإقليمية والإقتصادية والبشرية والسياسية الكمية في مواجهة الإعتبارات النوعية كلها إمتزجت مع بعضها البعض لتدعيم مثل هذا النمط من الحرب.
لم تعمد إسرائيل إلى خوض حروبها على الأراضي العربية للأسباب الآنفة الذكر فحسب، بل سعت أيضاً لخوض غمار حروب صغيرة. ومن هنا فإن تفضيل إسرائيل لخوض حروب قصيرة مثلما تفضل الحرب فوق أراضي عربية هو أمر ليس من الصعب فهمه جيداً. غني عن القول أن الحروب قصيرة الأمد لا تسبب تشويشاً إقتصادياً كبيراً كالتشويش الذي تحدثه الحروب الشاملة. وبما أن الإقتصاد الإسرائيلي حساس جداً بشكل خاص لتأثير الحروب، فقد كان لأورشليم حافز قوي لإنهاء فترة الحرب بأسرع وقت ممكن. علاوة على ذلك، فإن الماضي المأساوي للشعب اليهودي وصغر حجمه يولدان حافزاً قوياً جداً أيضاً لإنهاء الحروب بأقصى سرعة ممكنة لتفادي أقل قدر من الخسائر البشرية. كما أدركت أورشليم أن إنهاء الحرب بسرعة يقلل من إحتمال التدخل العسكري والسياسي الأجنبي لصالح العرب.
لم توفر المناورة الهجومية حلاً خلاقاً لمشاكل إسرائيل الإقليمية والإقتصادية والبشرية والسياسية فحسب بل أيضاً لعبت دوراً هاماً في دعم القوة العسكرية للجيش الإسرائيلي في مواجهة الجيوش العربية، فضلاً عن أن هذا النمط من الحرب يساعد ويدعم مبدأ النوعية. ترتكز المناورة الهجومية على سرعة الحركة وهذه ميزة لابد أن يتمتع بها المقاتل المدرب جيداً وذو القيادة والدفاعية الجيدة أيضاً. وبالتالي فإن تأثير العدد على نتيجة هذا النمط من الحرب يقل بكثير عن تأثيره على نتيجة حرب الإستنزاف.
لقد عززت تجارب وخبرة الجيش الإسرائيلي القتالية باستمرار من تمسكه بالمناورة الهجومية. ففي المراحل الأخيرة من حرب الإستقلال إستطاع الجيش الإسرائيلي إلحاق هزيمة منكرة بالجيش المصري من خلال سحقه وطرده من النقب في حملة مناورة هجومية. لذلك عمد الجيش الإسرائيلي في السنوات الأولى من تأسيسه إلى بناء وحدات مشاة مؤألله على غرار تلك الوحدات التي سحقت الجيش المصري. وفي حملة سيناء عام 1956 والتي هزمت فيها القوات الإسرائيلية أيضاً القوات المصرية شر هزيمة، محتلة بذلك معظم مساحة سيناء، لعب سلاح الجو والمدرعات دوراً مؤثراً جداً في هذه الحملة. وهكذا أصبح مفهوم المناورة الهجومية في الجيش الإسرائيلي بعد الحرب مرادفا لتألق وسيطرة سلاحي الجو والمدرعات.
Middle East Review of International Affairs, Vol. 5 No. 3 (September 2001)
الكاتب: ديفيد رودمان
واجهت إسرائيل عبر تاريخها تحديات كبيرة لأمنها القومي، ورغم ذلك، فهي لم تقم أبداً بالإعلان عن جميع عناصر نظريتها الأمنية القومية. غير أن تعاطيها مع تلك التحديات لم يكن أبداً عشوائياً، حيث توجد مجموعة من المفاهيم الأمنية التي ساعدت في التعرف على السلوك الإسرائيلي فيما يتعلق بالصراعات الصغرى والكبرى والحروب التي تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، علماً بأن الجانب العملياتي "لبعض هذه المفاهيم ظل مستقراً" على مدى الأيام ، بينما تطورت مفاهيم أخرى لتتماشى مع الظروف الداخلية والخارجية المستجدة للدولة.
تكاد لا توجد هناك دولة، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قلقت على أمنها القومي أكثر من إسرائيل، وليس من الصعب سبر غور ذلك. فلقد خاضت إسرائيل منذ نشأتها قبل نصف قرن حروباً شاملة ضد جيرانها العرب. خاضت حرب الإستقلال 1948-1949، ثم حملة سيناء 1956، وحرب عام 1967 وحرب الإستنزاف عام 1969 وحرب 1973 ثم حرب عام 1982. بمعنى آخر، خاضت إسرائيل كل عشر سنوات حرباً شاملة خلال العقود الخمسة من عمرها، ناهيك عن مشاركتها السلبية على الأقل في حرب الخليج عام 1991 عندما قصف العراق أراضيها بالصواريخ البالستية، وربما تكون قد شاركت بفاعلية في البحث عن تلك الصواريخ وتدميرها في غربي العراق. علاوة على ذلك ورغم معاهدتي السلام الرسميتين بين إسرائيل من جهة ومصر والأردن من جهة أخرى، وكذلك تفوقها بلا منازع في مجال الأسلحة التقليدية، فقد ظل تهديد نشوب حرب إسرائيلية-عربية تهديداً حقيقياً لغاية الآن. كما توسع هاجس الأمن القومي الإسرائيلي وامتد ليتعدى ساحة المعارك التقليدية. فعلى الطرف المنخفض لطيف الحرب غير التقليدية، تتعرض إسرائيل لموجة عنف مستمرة على شكل إرهاب وحرب عصابات (فلسطينية ولبنانية ترعاها في أغلب الأحيان دول عربية وايران) وكذلك لعصيان مسلح (فلسطيني) ومناوشات حدودية (مع مصر وسوريا ولبنان والأردن). وعلى الطرف التالي لطيف الحرب غير التقليدية، تواجه إسرائيل، ومنذ الستينات خطر الحرب الكيماوية بعد إستخدام مصر للغازات السامة في اليمن واستخدامها كذلك من قبل جهات أخرى في حرب الخليج. وبرز خطر الحرب الجرثومية والنووية كتهديد حقيقي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. لقد تعاملت إسرائيل مع خطر التهديد النووي بجدية تامة أوائل الثمانينيات لدرجة أنها أرسلت طيرانها الحربي لتدمير المفاعل النووي العراقي أُوزيراك في ربيع عام 1981. ومهما يكن من أمر، فإن الافتقار إلى نظرية أمنية قومية رسمية وكذلك تأثير خبرات الدولة وبيئتها أقنعا المخططين العسكريين الإسرائيليين بدراسة سُبل صياغة طاقم من المفاهيم الأمنية الاساسية. فمن ناحية، كانت هذه المفاهيم تشكل تعاطي إسرائيل مع المناخ الجغرافي و السياسي والبيئي الذي لابد أن تعيش فيه. ومن ناحية أخرى فإن تجارب الدولة وقت الحرب ووقت السلم ساعدت في تشكيل نمط هذه المفاهيم. وبما أنها تطورت خلال منعطفات زمنية متعددة ولم تدمج ضمن قضايا مرتبطة ببعضها تمام الإرتباط كنظرية أمنية قومية متناسقة ومرتبة، فقد وجهت هذه المفاهيم وقادت التفكير والسلوك الإسرائيلي منذ نشأة الدولة لدرجة أنه يمكن تنظيمها و تنسيقها في إطار خاص وتحت عناوين ثمانية متميزة وهي: الجغرافيا، القوة البشرية، الكم ضد النوع، المناورة الهجومية، الردع، التهديد التقليدي في مواجهة التهديد غير التقليدي، الإعتماد على النفس ودعم القوة العظمى. وبناء على هذا الأساس، فإن هدف هذا المقال يتجلى في وصف وتحليل هذه المفاهيم من زاوية تاريخية، بمعنى تقصي تطورها ودراسة أسباب صمتها وسكونها بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي على إمتداد سنوات عُمْر الدولة.
ينبغي في هذا السياق التركيز على أمرين مهمين: الأول وهو كما ورد في أسماء العناوين، أن هذا المقال يُعرِّف مفهوم الأمن القومي تعريفاً ضيقاً، إذ أن النظرية الأمنية بمعناها الفضفاض تضم في طياتها كافة السياسات العسكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية ويتضح منها أنها تهدف إلى حماية وتعزيز المصالح الأمنية القومية للدولة.
حسب ما ورد في هذا المقال، فإن مفهوم الأمن القومي ينحصر في مجال الدفاع القومي مع أنه يركز على النظرية العسكرية الإسرائيلية. الثاني: رغم محدودية الناحية التفسيرية لهذا المقال، فإنه لا يمكن أن يقال أنه أعطى شرحاً كاملاً لهذه العقيدة بل سلط الأضواء على المفاهيم الأساسية التي تشكل نواة هذه النظرية.
الجغرافيا:
لقد تأثرت النظرية العسكرية الإسرائيلية من الناحية التاريخية بالوضع الجغرافي، ورغم أنها خرجت من حرب الإستقلال 1948-1949 منتصرة وحصلت على كم من الأراضي يتجاوز ما خصص لها بموجب قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947، فإنها واجهت الكثير من المشاكل الحدودية بعد هذه الحرب. لم يكن من السهل الدفاع عن هذه الحدود الطويلة. وخير دليل على ذلك مدى السهولة التي إستطاع بها حتى المتسللون العرب عديمو الخبرة من إجتياز الأراضي الإسرائيلية إبان الفترة الأولى من قيام الدولة. أضف إلى ذلك إفتقار إسرائيل إلى العمق الاإستراتيجي، إذ أن عرض الدولة يضيق كثيراً في بعض المناطق ليصل إلى بضعة أميال ولا يتعدى عشرات الأميال في أفضل الأحوال، كما أن أهم مراكز التجمعات السكنية والمرافق الصناعية والعسكرية تقع ضمن مرمى الجيوش العربية، هذا الوضع الجغرافي أَرغم المخططين العسكريين الإسرائيليين في بداية الأمر على التوصل إلى استنتاج وهو أن إسرائيل لا تستطيع أن تخوض حرباً شاملة، أو حرباً مهما صغرت، على أراضيها. فالحرب الصغرى التي قد تدور رحاها على الأراضي الإسرائيلية، كما يرى المخططون العسكريون الإسرائيليون، ستضر كثيراً بالمجتمع الإسرائيلي في حين أن الحرب الشاملة ستقوض وستعرض بقاء الدولة للخطر. هذا التفكير هو الذي نفخ الروح في المفهوم الذي ينادي بضرورة نقل الحرب إلى الأراضي العربية مهما يكن الأمر. ولقد أثر هذا جداً على الأسس العملياتية والتكتيكية الخاصة بالجيش الإسرائيلي. بالنسبة للحرب الشاملة، شكل الوضع الإقليمي الإسرائيلي في الفترة الواقعة ما بين الأعوام 1949 إلى 1967 جزءاً من تفهُّم حرصها وتفسيرها للحربين الوقائية والإستباقية خلال هذه السنوات. فإسرائيل تختلف عن الدول الأخرى التي لها إما حدود تتيح لها منع جيوش مهاجمه من إختراق أراضيها مثل سويسرا مثلا، وأما أن يكون لها عمق إقليمي يمكن أن يتقهقر جيشها إليه ليعيد تجميع نفسه وبالتالي طرد الجيش المعادي من أراضيه مثل روسيا. فإسرائيل ما قبل عام 1967 لم تكن تمتلك أياً من هاتين الميزتين. ومن ثم كان لابد لها من أن تخوض حرباً وقائية عام 1956 وأخرى استباقية عام 1967.
فيما يتعلق بالحرب الصغرى، فقد عزز الوضع الجغرافي الإسرائيلي في الفترة الواقعة ما بين 1949-1967 من حرصها على مبدأ الرد. ولأن الجيش الإسرائيلي لا يملك الطاقة البشرية ولا الموارد المادية التي تساعدها على إحكام إغلاق حدودها ضد متسللين مسلحين، فقد توصل المحللون العسكريون والخبراء في الجيش الإسرائيلي إلى إستنتاج وهو أن إسرائيل بحاجة إلى تعاون الدول العربية المجاورة من أجل إستتباب الأمن والسلام على حدودها. لذلك حاولت إسرائيل ارغام الدول العربية على وقف أعمال التسلل هذه، وذلك عن طريق فرض ثمن يمكن أن تدفعه شعوبها وجيوشها من وراء الرد على أعمال التسلل.
لقد غيرت نتيجة حرب عام 1967 الوضع الإقليمي للصراع العربي الإسرائيلي تغييراً جذرياً. فإسرائيل لم تحطم فقط الجيوش المصرية والسورية والأردنية، بل أيضاً إستطاعت إحتلال مساحات لا بأس بها من أراضي تلك الدول، إذ انتزعت سيناء وقطاع غزة من مصر والضفة الغربية من الأردن ومرتفعات الجولان من سوريا الأمر الذي وفر لها جزءاً من العمق الإستراتيجي، حيث لم تعد مراكز التجمع السكاني فيها والمرافق الصناعية والعسكرية في مرمى الجيوش العربية أو القوات غير النظامية فضلاً عن أن لإسرائيل الآن حدوداً تذود عنها. شكلت الحدود الجديدة مواقع طبوغرافية عسكرية فاعلة كقناة السويس ونهر الأردن والمناطق الجبلية في يهودا والسامرة والأهم من ذلك أن طول الحدود نفسها تقلص كثيراً.
في الوقت الذي لم يؤثر فيه وضع إسرائيل الإقليمي ما بعد عام 1967 كثيراً على الأسس العملياتية والتكتيكية للجيش الإسرائيلي فهو من ناحية أخرى أثر كثيراً على النظرية الأمنية. إذ أن حربين من أصل ثلاث حروب شاملة خاضتها إسرائيل في مرحلة ما بعد عام 1967 كانت بمبادرة عربية في حين بادرت إسرائيل لشن حربين من أصل ثلاث حروب سبقت عام 1967. الواقع هو أن الحرب الوحيدة التي بادرت إسرائيل إلى شنها بعد عام 1967 حدثت عبر الحدود مع لبنان حيث كانت إسرائيل هناك تفتقر إلى العمق الإستراتيجي، علماً بأنها كانت الحدود الوحيدة التي طالما تعرض فيها المواطنون الإسرائيليون بشكل روتيني إلى عمليات تسلل إرهابية وهجمات بالصواريخ. وللتأكيد فإن قرار إسرائيل بالمبادرة أو بعدم المبادرة إلى الحرب لم يقم فقط على أسس واعتبارات عسكرية. ومع ذلك يبدو جلياً أن الحصول على حدود دفاعية وعمق إستراتيجي في المرحلة التي أعقبت عام 1967 كبح نوعا ما النزعة الإسرائيلية لشن حرب وقائية أو إستباقية.
يبدو أن التوجه الإسرائيلي نحو النزاعات الصغرى لم يتغير بشكل ملحوظ نتيجة للتحولات الحدودية، كون الرد كوسيلة للتأثير على تصرفات العدو بقي أداة مركزية للتعامل مع الحروب الصغيرة في مرحلة ما بعد عام 1967. وبالنسبة لإنتشار تهديد الحرب النووية والبيولوجية والكيماوية على إسرائيل في الربع الأخير من القرن الماضي، يظهر أن العمق الإستراتيجي والحدود الدفاعية لم يكن لها تأثير ملموس على الأمن القومي للدولة.
إن أهم إنجاز تحقق من وراء كسب إسرائيل لحدود جديدة في مرحلة ما بعد حرب عام 1967 بالنسبة للأمن القومي لإسرائيل هو عزل البلاد وإبعادها عن خطر التقهقر الكارثي في حرب تقليدية شاملة. ففي حرب عام 1973، وفر العمق الإستراتيجي والدفاعي اللذان أتاحهما إحتلال سيناء ومرتفعات الجولان للجيش الإسرائيلي مجالا وحيزاً من الزمن كي يفيق من المباغتة والنكسة التي مني بها.
بيد أن السيطرة على سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية و مرتفعات الجولان خلقت مشاكل بحد ذاتها. إذ أن احتلال سيناء ومرتفعات الجولان وفر للدول العربية الأساس الذي تبنى عليه إتخاذ القرارات العربية بالمبادرة إلى شن حرب الإستنزاف ثم حرب أكتوبر 1973، فضلاً عن أن أعمال العنف الفلسطينية التي اندلعت أواخر الثمانينيات ولا زالت لغاية الآن، وكذلك حرب العصابات والإرهاب في منطقة الحزام الأمني في جنوب لبنان ما بين الأعوام 1995-2000 وضعت كلها مسألة الميزة الإستراتيجية التي نشأت عن السيطرة على أراضي يقطنها معادون موضع تساؤل.
على هذا الأساس تحركت النظرية الأمنية بخطى ثابتة باتجاه مبادلة الأراضي بمعاهدات سلمية رسمية (مصر والأردن) وتفاهمات غير رسمية (لبنان) يرافقها ضمانات أمنية مقبولة كالمراقبة الدولية والمناطق المنزوعة السلاح ومحطات الإنذار المبكر والتنسيق الأمني الثنائي..الخ. هذا التقلص المتزايد في الإهتمام والتركيز على السيطرة على أراضي كرصيد أمني قومي يعني أنه لو خاضت إسرائيل حرباً شاملة في المستقبل فمن غير المحتمل أن يكون بين أهداف هذه الحرب إحتلال أراضي، بل قد يركز الجيش الإسرائيلي على تحطيم الجيوش العربية وبنيتها العسكرية وربما على تدمير البنيات التحتية الإقتصادية والسياسية للدول العربية كوسيلة أكثر نجاعة لضمان الأمن القومي الإسرائيلي.
الطاقة البشرية:
كان تعداد الشعب اليهودي عام 1948 يتراوح ما بين 600 إلى 650 ألف نسمة في حين كان عدد سكان الدول العربية المجاورة يربو على عدة ملايين. هذا الخلل في التوازن الديمغرافي الذي لا تستطيع أية هجرة جماعية يهودية تعديله يعني أن باستطاعة العالم العربي المحافظة على وجود جيوش نظامية كبيرة الحجم. ولا يمكن لإسرائيل مضاهاة ذلك، وأية محاولة لبناء جيش كهذا سيقضي على قدرة الدولة على بناء إقتصاد سليم.
إستطاع المخططون العسكريون الإسرائيليون تذليل هذه العقبة الديمغرافية عن طريق تحويل الجيش إلى أشبه ما يكون بالمليشيات المسلحة إبان حرب الإستقلال. أما في وقت السلم (أي في ظل غياب حرب شاملة) فإن جيش الدفاع سيكون مؤلفا من عدد قليل من الجنود المحترفين يساندهم عدد أكبر من المجندين في الخدمة العسكرية الإلزامية على أن ينضم إلى هؤلاء المجندين والمحترفين عدد محدود من الإحتياط الذي يتعين على الجندي فيه قضاء عدة شهور في الخدمة العسكرية سنوياً كلٌ حسب الحالة الخاصة به. كل مواطن اسرائيلي، رجلاً كان أو إمرأة، هو بمثابة إحتياط بعد إنهاء خدمته العسكرية الإلزامية ما لم ينضم أو تنضم إلى الخدمة النظامية. الواقع هو أن الإسرائيليين كان يروق لهم في يوم من الأيام ترديد النكتة القائلة بأنهم أمة من الجنود تقضي إجازة مدتها 11 شهراً في العام. ويظل عدد الجنود في الجيش الإسرائيلي وقت السلم عند أدنى حد، كي لا يتشوش ويتعرقل التقدم الإقتصادي للبلاد.
للجيش الإسرائيلي وظيفتان رئيسيتان وقت السلم تتمثل الأولى في المسؤولية عن الأمن اليومي لإسرائيل وهذا يعني التعامل مع الحروب الصغيرة كالمناوشات الحدودية مع دولة عربية أو تنفيذ مهام ضد منظمة إرهابية أو قمع حشود جماهيرية. أما الثانية فتتمثل في الإعداد الجيد لحرب شاملة. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف ينبغي على الجيش التأكد من أن وحدات الإحتياط التي تشكل معظم القدرة القتالية للجيش الإسرائيلي يمكن تنظيمها في غاية السرعة والسلاسة ونشرها فوراً في ساحة المعركة. وبالتالي فإن الحفاظ على نظام تعبئة فعال هو أمر في غاية الأهمية من أجل تحقيق الهدف المرجو. ويستوجب الإستعداد للحرب أيضاً العديد من المهام مثل تدريب المجندين والإحتياط وصيانة المعدات والحفاظ عليها في حالة صالحة للإستعمال وتطوير الخطط العملياتية والتكتيكية.
إن جيشاً إسرائيلياً شبيهاً بالميليشيا يخدم الأمن القومي الإسرائيلي جيداً. فهو لم يقم بتنفيذ مهمة عظيمة تتمثل في حماية الدولة ضد الحروب الصغيرة والشاملة فحسب بل نفذ هذه المهمة دون التسبب في تشويش الحياة الاقتصادية على المدى الطويل. ومهما يكن من أمر، فإن هذا الحل الإسرائيلي لمشكلة الطاقة البشرية حمل في طياته أيضاً ثمناً سياسياً. فمن الناحية العسكرية، عهد الجيش الإسرائيلي ومر بتجربة دنا فيها من الكارثة في بداية حرب أكتوبر من عام 1973 لأن حجم قواته النظامية آنذاك كان صغيراً لدرجة لا تكفي لمعاجلة الضربة المفاجئة التي وجهتها مصر وسوريا.
أما من الناحية السياسية، فينبغي تسريح الجيش الإسرائيلي أو الزج به في الحرب خلال مدة قصيرة لأن الإقتصاد الإسرائيلي ببساطة لا يستطيع العيش في ظل تعبئة إلى أجل غير مسمى منتظراً أن تدور عجلات الدبلوماسية البطيئة. فحقيقة الأمر هي أن أورشليم لم تمتلك في يوم من الأيام رفاهية توفر الوقت أثناء الازمة.
ومع أن إسرائيل لازالت متمسكة جداً بجيش شبيه بالميليشيا، إلا أن هناك بوادر تغير في هذا الخصوص بدأت تلوح في الأفق منذ مطلع التسعينات. وطالما أعرب ضباط كبار عن آرائهم في أن يروا الجيش الإسرائيلي وقد أصبح منظمة أصغر حجماً وأكثر تنظيماً. بيد أن المعنى الدقيق لهذا الإصطلاح فيما يتعلق بمتطلبات الطاقة البشرية مستقبلاً مازال غير واضح، مع أنه يبرز الدلالة على الرغبة في الإعتماد أكثر فأكثر على الجنود المحترفين وأقل فأقل على المجندين الإلزاميين والإحتياط.
هناك سببان رئيسيان يكمنان وراء تفضيل جيش أكثر إحترافاً، الأول هو الزيادة الطبيعية في النمو السكاني والهجرة الجماعية، إذ تجاوز تعداد الشعب اليهودي الخمسة ملايين. يرى كثير من الضباط الإسرائيليون أن الدولة الآن لديها فائض في الطاقة البشرية العسكرية وهذا يشير إلى أن الجيش قد يكون قادراً مستقبلا على تنفيذ المهمة الملقاة على كاهله دون اللجوء إلى عملية تجنيد شاملة. الثاني هو أنه في الوقت الذي أصبحت فيه الحرب بشكل متزايد مسألة ترتكز على التكنولوجيا المتطورة، أصبح الجنود غير النظاميين من ناحية أخرى يجدون صعوبة أكثر فأكثر في تشغيل آخر ما توصل إليه العلم في مجال المعدات والأجهزة الخفيفة والثقيلة. ومع أن هناك فروعا في الجيش الإسرائيلي كسلاح الجو والبحرية والإستخبارات العسكرية تحتفظ بضباط إحتياط مميزين، إلا أنها كانت تعتمد منذ وقت طويل على الجنود المحترفين بسبب الطبيعة المعقدة جداً للمعدات العسكرية الثقيلة والخفيفة التي يحارب بها. أيضاً أصبحت وحدات العمليات الخاصة في الجيش أكثر إحترافاً من أي وقت مضى، عاكسة بذلك الدور السياسي الملح والحساس الذي تلعبه الآن في العسكرية الإسرائيلية. أن الأمر المؤكد مع ذلك، هو أن الجيش الإسرائيلي سيحتفظ وسيعتمد بشكل كبير على كادر ضخم من الإحتياط في المستقبل المنظور في حالة ما تأكد الجيش أن هناك احتمالاً لاندلاع حرب شاملة. بيد أن إستمرار إنتشار التكنولوجيا الفائقة بما في ذلك الأنظمة الإلكترونية المتطورة والأسلحة دقيقة التوجيه في الحروب، سيعمل على تقليص حجم الإحتياط في وقت بات فيه التجنيد أكثر انتقاءً، وفي وقت يتزايد فيه عدد الجنود المحترفين.
الكم ضد الكيف:
لقد تميز الصراع العربي-الإسرائيلي بعدم التوازن في الموارد العسكرية لاسيما في مجال الحرب التقليدية. كانت إسرائيل ولا تزال تمتلك عدداً أقل مما تمتلكه الدول العربية من حيث الجنود والعتاد. وللتعويض عن هذا النقص في الكم، دأب الجيش الإسرائيلي على البحث عن التفوق النوعي في العدة والعتاد وأصبحت الطاقة البشرية في الجيش الإسرائيلي أكثر ملاءمة وأكثر ثقافة دفاعية من نظيراتها العربية. فقد سعى المخططون العسكريون الإسرائيليون الذين إعترفوا بهذه الحقيقة إلى تثقيف وتدعيم الرصيد البشري في الجيش وقد إستفاد من هذا التفوق في نواحي عدة. أولاً، لقد عُرف الجيش الإسرائيلي بتدريباته الصارمة والقاسية لاسيما فيما يتعلق بالوحدات القتالية. على سبيل المثال فإن القسوة التي يلاقيها الطيار الإسرائيلي خلال تدريبه في سلاح الجو لا تضاهيها أي قسوة في أي سلاح جو آخر في العالم، ليس في الدول العربية فحسب. ثانياً يركز الجيش الإسرائيلي تركيزا شديداً ويولي عناية كبيرة في إختيار وتدريب ضباط الوحدات القتالية علماً بأن الدقة الشديدة في عملية الإختيار وتدريب الضباط ليس لها مثيل في أي جيش في العالم. ثالثاً، لقد تبنى الجيش الإسرائيلي منذ تأسيسه ولغاية الآن نمطاً حربياً على المستويين العملياتي والتكتيكي، بهدف تعظيم قدرته البشرية.
وبالنسبة للتفوق التسليحي فهذه ظاهرة أكثر حداثة حيث أن الأسلحة المتطورة للغاية التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي الآن طغت على حقيقة أن السلاح الإسرائيلي قبل حرب عام 1967 لم يكن متفوقاً على السلاح الذي كان بحوزة العرب آنذاك. وبينما كان العرب يتلقون آخر ما توصلت إليه الصناعات العسكرية السوفيتية، لم يكن أمام إسرائيل سوى الإعتماد على الأسلحة الغربية من الطراز الثاني ولم تكن الترسانة العسكرية الإسرائيلية تضاهي مثيلاتها في الدول العربية، الا في مجال سلاح الجو والمدرعات والإستخبارات. لقد حقق الجيش الإسرائيلي التفوق التكنولوجي بعد حرب عام 1967 عندما بدأت الولايات المتحدة في تزويد سلاح الجو الإسرائيلي بطائرات قتالية متقدمة. كما لوحظ التفوق التكنولوجي الإسرائيلي في المجال البحري بعد عام 1967 عندما أدخل سلاح البحرية إلى الخدمة زوارق الصواريخ السريعة المجهزة بالصواريخ المتطورة المضادة للسفن. أما في مجال الحرب البرية فلم يتحقق التفوق التكنولوجي الإسرائيلي إلا بعيد حرب عام 1973 بعد تقدم الإنتاج المحلي الضخم للأسلحة.
لقد لوحظت المساعي والجهود الإسرائيلية للحفاظ على تفوقها النوعي في ساحات المعارك، وعلى الرغم من أن إسرائيل عانت من بعض التراجع على صعيد الحربين الشاملة والصغيرة، إلا أنه لم يحدث أن مني الجيش الإسرائيلي بالهزيمة على يد القوة العسكرية العربية، بل كان المنتصر بلا منازع في حرب شاملة عدا حرب الإستنزاف التي آلت إلى طريق مسدود على طول قناة السويس وقد أبلى الجيش الإسرائيلي بلاءً حسناً في الدفاع عن البلاد خلال الحروب الصغيرة مع أنه لم يستطع على الإطلاق توجيه ضربة قاضية للمنظمات الإرهابية العربية.
ظل الجيش الإسرائيلي اليوم ملتزماً ومتمسكاً بمفهوم التفوق النوعي في العدة والعتاد. وبالرغم مما يشاع عن أن مستوى أداء جنوده تدنى في العقود القليلة الماضية، إلا أن الطاقة البشرية في الجيش الإسرائيلي هي في غاية الإستعداد الجيد كما كانت عليه في الماضي. فمن الناحية التكنولوجية، يعتقد أن الجيش الإسرائيلي متمسك الآن أكثر من أي وقت مضى بفكرة التفوق النوعي على الجيوش العربية، وهذا التركيز على النوع ينبغي أن لا يحجب حقيقة أن موقف الجيش الإسرائيلي من الكم تغير بعد حرب 1973. إذ أن تجربته المريرة في هذه الحرب ولاسيما في بدايتها عندما مني بخسائر جسيمة في العدة والعتاد أوصلته إلى قناعة بأن للكم ميزة بحد ذاته. في الربع الأخير من القرن الماضي زاد حجم الجيش الإسرائيلي بشكل ملحوظ لدرجة أن ترسانته الحالية تحتوي على أكثر من 800 طائرة مقاتلة و 2000 قطعة مدفعية و 4000 دبابة، الأمر الذي يضعها في مصاف كبرى الترسانات في العالم في وقت ينبغي أن يؤدي استمرار التمسك بالحفاظ على جيش أصغر حجماً وأكثر تنظيماً، إلى تقليص كمية السلاح مع مرور الزمن.
حرب المناورة الهجومية:
يبدو من قبيل التناقض أن لا تسعى دولة كإسرائيل أبداً لتوسيع أراضيها على حساب جيرانها العرب بقصد متعمد، وأن تظل متمسكة بحرب المناورة الهجومية. بيد أن تبنى الجيش الإسرائيلي لهذا النمط من الحرب على الصعيدين التكتيكي والعملياتي هو أمر معقول جداً، واذا أُريد معرفة السبب ينبغي الإدراك بأن الإعتبارات الإقليمية والإقتصادية والبشرية والسياسية الكمية في مواجهة الإعتبارات النوعية كلها إمتزجت مع بعضها البعض لتدعيم مثل هذا النمط من الحرب.
لم تعمد إسرائيل إلى خوض حروبها على الأراضي العربية للأسباب الآنفة الذكر فحسب، بل سعت أيضاً لخوض غمار حروب صغيرة. ومن هنا فإن تفضيل إسرائيل لخوض حروب قصيرة مثلما تفضل الحرب فوق أراضي عربية هو أمر ليس من الصعب فهمه جيداً. غني عن القول أن الحروب قصيرة الأمد لا تسبب تشويشاً إقتصادياً كبيراً كالتشويش الذي تحدثه الحروب الشاملة. وبما أن الإقتصاد الإسرائيلي حساس جداً بشكل خاص لتأثير الحروب، فقد كان لأورشليم حافز قوي لإنهاء فترة الحرب بأسرع وقت ممكن. علاوة على ذلك، فإن الماضي المأساوي للشعب اليهودي وصغر حجمه يولدان حافزاً قوياً جداً أيضاً لإنهاء الحروب بأقصى سرعة ممكنة لتفادي أقل قدر من الخسائر البشرية. كما أدركت أورشليم أن إنهاء الحرب بسرعة يقلل من إحتمال التدخل العسكري والسياسي الأجنبي لصالح العرب.
لم توفر المناورة الهجومية حلاً خلاقاً لمشاكل إسرائيل الإقليمية والإقتصادية والبشرية والسياسية فحسب بل أيضاً لعبت دوراً هاماً في دعم القوة العسكرية للجيش الإسرائيلي في مواجهة الجيوش العربية، فضلاً عن أن هذا النمط من الحرب يساعد ويدعم مبدأ النوعية. ترتكز المناورة الهجومية على سرعة الحركة وهذه ميزة لابد أن يتمتع بها المقاتل المدرب جيداً وذو القيادة والدفاعية الجيدة أيضاً. وبالتالي فإن تأثير العدد على نتيجة هذا النمط من الحرب يقل بكثير عن تأثيره على نتيجة حرب الإستنزاف.
لقد عززت تجارب وخبرة الجيش الإسرائيلي القتالية باستمرار من تمسكه بالمناورة الهجومية. ففي المراحل الأخيرة من حرب الإستقلال إستطاع الجيش الإسرائيلي إلحاق هزيمة منكرة بالجيش المصري من خلال سحقه وطرده من النقب في حملة مناورة هجومية. لذلك عمد الجيش الإسرائيلي في السنوات الأولى من تأسيسه إلى بناء وحدات مشاة مؤألله على غرار تلك الوحدات التي سحقت الجيش المصري. وفي حملة سيناء عام 1956 والتي هزمت فيها القوات الإسرائيلية أيضاً القوات المصرية شر هزيمة، محتلة بذلك معظم مساحة سيناء، لعب سلاح الجو والمدرعات دوراً مؤثراً جداً في هذه الحملة. وهكذا أصبح مفهوم المناورة الهجومية في الجيش الإسرائيلي بعد الحرب مرادفا لتألق وسيطرة سلاحي الجو والمدرعات.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى