النظرية الأمنية الاسرائيلية 2
صفحة 1 من اصل 1
النظرية الأمنية الاسرائيلية 2
عززت الانتصارات الساحقة التي حققها سلاحي الجو والمدرعات إبان حرب عام 1967 بشكل كبير من هذه النظرية، وذلك على المستويين التكتيكي والعملياتي. كما أن حصول إسرائيل على حدود يمكن الدفاع عنها وعلى عمق إستراتيجي بفضل هذه الحرب لم يكن له تأثير كبير على الإنتقاص من عزيمة إسرائيل على التركيز على المناورة الهجومية، كما أن الخسائر التي مني بها سلاحا الجو والمدرعات في الأيام الأولى من حرب أكتوبر 1973، على يد المضادات الأرضية والأسلحة العربية المضادة للدبابات لم تقوض من الإيمان القوي بهذا النمط من الحرب.
لازال الجيش الإسرائيلي لغاية اليوم يدافع دفاعاً شديداً عن حرب المناورة الهجومية ومع ذلك فقط عدل نوعا ما من الأنماط التكتيكية والعملياتية بعد حرب عام 1973. ومن أبرز تلك التعديلات هو التحول نحو مزيج متناسق من القوات بحيث يوفر لأسلحة المدفعية والمشاة والهندسة التي كانت مهمشة في السابق، دوراً أكثر وضوحاً في التصميم التكتيكي والعملياتي للجيش الإسرائيلي. هناك جانب آخر من هذه التغيرات يشمل إعتماداً أكبر على القوة النارية لتحقيق الأهداف العسكرية. وقد ظهرت بوادر هذا التركيز على القوة النارية إبان حرب لبنان عام 1982. بيد أنه في التسعينات فقط بدأ الجيش الإسرائيلي يقر بوضوح أن التحركية لم تعد تمثل وحدها حلاً خلاقاً لما يجري في ساحة المعارك الحديثة في الشرق الأوسط.
وعلى ضوء الطبيعة المشبعة لساحة المعارك هذه التي يتقلص فيها مجال المناورة إلى حد بعيد بفعل الأعداد الهائلة من الأسلحة الموجودة في ترسانة دول الشرق الأوسط، فإن الحرب القادمة إذا ما اندلعت، ستشهد تخلي الجيش الإسرائيلي مؤقتاً عن حرب المناورة الهجومية إلى أن يتم تنفيذ حملة تمهيدية من القصف بحيث يكون قصيراً وكثيفاً يستخدم فيها صواريخ طويلة المدى موجهة بالليزر تطلق من الجو والبر والبحر ضد أهداف عسكرية وسياسية وصناعية عربية. وبغض النظر عن الطرف الذي يبادر إلى الحرب، فإن الجيش الإسرائيلي قد يسعى إلى إضعاف خصمه إلى حد يمكن عنده تنفيذ حملة المناورة الهجومية بأقل الخسائر.
الردع:
تسعى إسرائيل جاهدة، كسائر الدول الأخرى، للدفاع عن مصالح أمنها القومي بالوسائل السلمية. لقد سعت، بمعنى آخر، إلى ردع خصومها العرب وليس محاربتهم. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف إستخدمت نوعين من الردع وهما الردع العام والردع الخاص المحدود. أضف إلى ذلك أن إسرائيل مارست الردع في مجال الحرب التقليدية وغير التقليدية.
لقد ركز الردع الإسرائيلي من الناحية التاريخية على الحيلولة دون إندلاع حرب واسعة النطاق. ولذلك فقد تمحور الردع العام الإسرائيلي حول مفهوم إظهار إمتلاك القوة الفائقة. ظلت إسرائيل تردد عبارة أن بإمكان العرب إختيار وقت الحرب بينما نحن الذين نقرر مجالها ونطاقها، وقد أريد بذلك توصيل رسالة إلى الدول العربية بأن لا تبادر إلى الحرب لأن إسرائيل ستلحق بهم هزيمة يفوق ثمن الذهاب إلى الحرب، ثمن أية فوائد قد تجنيها من ورائها. من ناحية أخرى تركزت فكرة الردع الإسرائيلي حول آلية وضع الخطوط الحمراء الواضحة التي إذا تم اجتيازها فإن ذلك سيولد رداً عسكرياً صارماً. وتطرح أورشليم مثالاً على ذلك، وهو أن تحرك أي جيش أجنبي إلى الأردن سيكون سبباً للحرب لدرجة أن معاهدة السلام الإسرائيلية-الأردنية الموقعة في عام 1994 تتضمن بنداً ينص على ذلك. ولقد أوضحت إسرائيل أيضاً أن أي إغلاق لأحد ممراتها البحرية سيكون سبباً لاندلاع الحرب. والواقع هو أن الإنتهاكات العربية عام 1967 لهذه الخطوط الحمراء يفسر جزئيا قرار إسرائيل بشن الحرب الإستباقية. يكاد يكون وضع الردع الإسرائيلي بالنسبة للحروب الصغيرة والحروب التي تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل أقل وضوحاً.
ولعل مفهوم "الرد الشامل" هو الذي يهيمن على حالة الردع الإسرائيلي في مجال الحرب غير التقليدية. ومن أجل ردع أية حرب صغيرة، ظلت أورشليم تتوعد دائماً بالرد بشكل لا يتناسب مع أي عمل تقوم به المنظمات الإرهابية. ومن أجل الردع عن إستخدام أسلحة الدمار الشامل، توعدت إسرائيل بشكل واضح بإستخدام نفس الأسلوب ضد أي دولة تسول لها نفسها إستخدام هذا النوع من السلاح ضد إسرائيل. ولإضفاء مزيد من المصداقية على هذا التهديد، سعت إسرائيل بهدوء ولكن بشكل أكيد، إلى جعل قدرتها على خوض حرب نووية أكثر "شفافية".
يبدو للوهلة الأولى أن تاريخ إسرائيل المفعم بالعنف يشير بوضوح إلى أن حالة الردع الإسرائيلي لم يكن لها تأثير على خصومها العرب. هناك مثال يدعم هذا الإعتقاد حيث فشل الردع الإسرائيلي قبل عام 1967 وفي الفترة الواقعة ما بين عام 1969 وعام 1970 وقبل أعوام 1973 و 1982 و1991، علماً بأن الردع الإسرائيلي في حالة الحروب الصغيرة الذي يتضمن تنفيذ تهديدات سابقة بالرد الشامل لم يوفر علاجاً طويل الأمد لهذا المرض المزمن. ومع ذلك فقط يبدو من قبيل المبالغة الإدعاء بأن الردع الإسرائيلي ما هو إلا سراب. توجد إمكانية للتمييز بين الوقت الذي يفشل فيه الردع والوقت الذي ينجح فيه. فقد يسهل إذن تشخيص حالة الردع الإسرائيلي على أنها فشل ذريع. ولكن عندما يؤخذ بعين الإعتبار حقيقة أن أياً من الدول العربية أو المنظمات الإرهابية لم تبدِ ندماً حيال استخدام أقصى درجة من العنف في سبيل تحقيق هدف إبادة دولة إسرائيل، يتبين أن سجل الردع الإسرائيلي أكثر فاعلية، فالعراق على سبيل المثال، مع أنه لم يرتدع عن إطلاق الصواريخ البالستية على إسرائيل إبان حرب الخليج، فهو لم يحاول أبداً تسليح هذه الصواريخ برؤوس بيولوجية أو كيماوية مع وجود القدرة لديه على ذلك، ولعل تهديد إسرائيل باستخدام الأسلحة النووية هو الذي ردع العراق عن إستخدام أسلحة الدمار الشامل. وبغض النظر عن الحكم بفشل أو بنجاح سجلها، فمن غير المتوقع أن يطرأ أي تغيير ملموس على حالة الردع الإسرائيلي على الأقل في المستقبل القريب.
التهديدات التقليدية وغير التقليدية:
لقد أبتليت إسرائيل بخطر إندلاع الحروب الصغيرة والحروب واسعة النطاق على مر تاريخها، كما واجهت أيضاً خطر أسلحة الدمار الشامل معظم عمرها. ومع ذلك فإن تأثير هذه التهديدات على نظرية الأمن القومي الإسرائيلي تغير بشكل واضح مع مرور الزمن. وخير دليل على ذلك هو التباين الواضح بين ما كان يجري في مرحلة ما قبل وما بعد حرب أكتوبر. ففي مرحلة ما قبل عام 1973، كانت النظرية الأمنية الإسرائيلية تركز تركيزاً كبيراً على خطر نشوب حرب واسعة النطاق. وقد إعترف المخططون العسكريون الإسرائيليون بأن المناوشات الحدودية مع الدول العربية والإرهاب الفلسطيني يمثلان تهديدا مزمناً يتوجب على الجيش الإسرائيلي الإعداد له جيداً. أخذت إسرائيل خطر أسلحة الدمار الشامل مأخذ الجد لدرجة أنها كانت تنظر في الستينيات في إمكانية توجيه ضربة للجهود المصرية لاقتناء أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيماوية. لكن هؤلاء المخططين لم يروا في هذه التهديدات خطراً حقيقيا على وجود الدولة وذلك على العكس مما هو عليه الحال بالنسبة لتهديد الحرب التقليدية، وإذا ما أُخذ بالحسبان حجم المخصصات الدفاعية للدولة في مرحلة ما قبل عام 1973، فذلك يشير إلى أن المخططين العسكريين إعتبروا الحرب الشاملة أعظم خطر يواجه إسرائيل في تلك المرحلة. والواقع أن نسبة ضئيلة من هذه المخصصات إستثمرت في الحدود الخارجية على شكل نقاط مراقبة ودوريات لحرس الحدود ووحدات لمكافحة الإرهاب وإقامة حقول الغام. والواقع أيضاً، أن نسبة ضئيلة من الركائز والمقومات الدفاعية خصصت لتطوير الأسلحة النووية (سلاح الخيار الأخير) وكذلك لتجهيز الجيش الإسرائيلي بمعدات الوقاية من الأسلحة الكيماوية. بيد أن أغلب المصادر خصصت لخوض حرب تقليدية، بمعنى آخر، لشراء الطائرات الحربية والدبابات والعربات المدرعة والمدفعية…الخ.
أما في مرحلة ما بعد حرب عام 1973، فقد إستمر المخططون العسكريون الإسرائيليون في إعتبار الحرب التقليدية تهديداً رئيساً على وجود الدولة. وخير شاهد على ذلك أن الجيش الإسرائيلي يملك الآن ما يزيد على 12 لواءً مدرعاً و 4 الوية مؤألله. ومع ذلك فقد تبين أن خطر الحروب الصغيرة وأسلحة الدمار الشامل على وجود الدولة هو أعظم من أي وقت مضى. نشأ الوضع السابق مع إندلاع الإنتفاضة 1987-1993، وظهور حزب الله في التسعينيات، أما الوضع الأخير فقد نجم عن إنتشار الصواريخ البالستية وأسلحة الدمار الشامل في مختلف أنحاء الشرق الأوسط لا سيما في العقدين الماضيين.
إنعكس بروز تهديد الحرب غير التقليدية على تخصيص الموارد العسكرية الإسرائيلية منذ حرب أكتوبر 1973. وبينما لازالت الدولة ماضية قدماً في توظيف معظم مصادرها في الإعداد للحرب التقليدية، فإن هناك مصادر كثيرة إستنزفها الإعداد للحرب غير التقليدية خصوصاً منذ الثمانينيات فصاعداً. ومع إندلاع الإنتفاضة أواخر الثمانينيات، انشأ الجيش الإسرائيلي وحدات للعمليات الخاصة التي كرست جل مهامها للتعامل مع الحروب الصغيرة، فقد شكلت وحدتا سييرت شمشون وسييرت دوبدوبان على سبيل المثال لهدف واحد هو تصفية قادة المنظمات الإرهابية. وقد لوحظ عمل وحدات المستعربين في الإنتفاضة الأخيرة. وعلى نفس النمط، شكل الجيش الإسرائيلي وحدة أغوز رسمياً لخوض معارك كوماندوز ضد حزب الله.
المثير في الأمر هو طبيعة الرد الإسرائيلي على تهديدات أسلحة الدمار الشامل، ولردع أي دولة عربية عن إستخدام مثل هذه الأسلحة. سعت إسرائيل على ما يبدو إلى اقتناء ترسانة ضخمة ومتنوعة من الأسلحة النووية التي تضم قنابل تسقط من الجو ورؤوساً حربية تطلق بواسطة صواريخ بالستية وكذلك صواريخ كروز من غواصات تحت الماء، بمعنى آخر، تملك إسرائيل ما يؤمن لها القدرة على "الضربة الثانية"، أما بالنسبة للاجراءات الدفاعية الفعالة فقد طورت إسرائيل أسلحة طويلة المدى وأنظمة لجمع المعلومات الإستخبارية مما يؤهلها للتصدي لأي سلاح من أسلحة الدمار الشامل.
يقال أن الجيش الإسرائيلي يعكف منذ نهاية التسعينات على بناء "قيادة إستراتيجية" تتألف من سلاح الإستخبارات وسلاح الجو ووحدات المهام الخاصة بحيث تكون قادرة على تنفيذ مهام بعيدة جداً عن الحدود الإسرائيلية للدفاع عن أمن الدولة ضد خطر أسلحة الدمار الشامل. ومع ذلك لم يغفل الجيش بعد حرب الخليج عن تشكيل جبهة قيادة داخلية لتمكين الشعب الإسرائيلي من حماية نفسه ضد خطر أسلحة الدمار الشامل. وباختصار فإن ظهور خطر التهديدات غير التقليدية جعل الجيش الإسرائيلي يختلف جداً عن الجيش الذي ظهر بعد حرب أكتوبر عام 1973.
الإعتماد على النفس:
حرص اليهود في مرحلة ما قبل إنشاء الدولة حرصاً شديداً على الإعتماد على أنفسهم فيما يتعلق بالقضايا الأمنية، وذلك لهدفين، الأول: وهو دحض الأسطورة المناهضة للسامية القائلة بأن اليهودي إنسان هزيل وضعيف، والثاني: للوفاء بمتطلبات الدفاع عن السكان اليهود ضد أعدائهم العرب. استعد اليهود للدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم وقد تجلى ذلك في الجهود الصهيونية منذ البداية لترث إسرائيل هذا المبدأ فيما بعد. يمكن تقسيم مفهوم الإعتماد على النفس إلى ثلاثة أجزاء منفصلة: الإعتماد على النفس فيما يتعلق بالطاقة البشرية، الإعتماد على النفس في التدريب والنظرية، والإعتماد على النفس في السلاح. إسرائيل لم تستخدم الطاقة البشرية الأجنبية إلا في ثلاث مناسبات فقط، وفي مناسبة واحدة فقط من هذه المناسبات الثلاث أثبتت الطاقة البشرية العسكرية الأجنبية أهميتها في تحسين فرص إسرائيل في الحرب.
الأولى كانت إبان حرب الإستقلال عندما خدم المتطوعون اليهود وغير اليهود جنباً إلى جنب في الجيش الإسرائيلي الناشئ. كان عدد المتطوعين الأجانب لا يتناسب مع عدد الجنود الذين يتطلب منهم إبداء مهارات فنية خاصة كما هو جاري في سلاح الجو والبحرية. أما المناسبة الثانية فقد حدثت إبان حملة سيناء عندما طلبت أورشليم من فرنسا بأن ترابط مقاتلات فرنسية إعتراضية في قواعد سلاح الجو الإسرائيلي للحيلولة دون تمكين المقاتلات المصرية من الوصول إلى المدن الاسرائيلية، بينما حدثت المناسبة الثالثة إبان حرب الخليج عندما طلبت إسرائيل إرسال بطاريات صواريخ مضادة للصواريخ من طراز باتريوت يقوم بتشغيلها طاقم هولندي لإسقاط الصواريخ العراقية التي تستهدف المدن الإسرائيلية. بالنسبة للمقاتلات الفرنسية فقد ثبت أنه لم يكن لها أي ضرورة لأنه لم يحدث أن تمكنت أي من المقاتلات المصرية من إختراق الأجواء الإسرائيلية في حين لم يكن لبطاريات صواريخ باتريوت سوى الطمأنة النفسية للجمهور الإسرائيلي. باختصار لقد حققت إسرائيل أعظم مستوى من الدفاع عن النفس.
نفس الشيء يمكن أن يقال عن التدريب والنظرية. لقد درس عدد قليل من ضباط الجيش الإسرائيلي في أكاديميات عسكرية غربية، كما تدرب عدد قليل أيضاً من الجنود الإسرائيليين على أيدي ضباط في الجيوش الغربية للتعلم على كيفية تشغيل الأسلحة الحديثة. ومع ذلك يتباهى الجيش الإسرائيلي بأنه لم يبحث إطلاقاً عن التوجيه والإرشاد الأجنبي من حيث التدريب والنظرية على خلاف ما جرى في دول ما بعد الحرب العالمية الثانية. فكل شيء عن إدارة الحروب الصغيرة وكل شيء عن إدارة الحروب واسعة النطاق على المستويين العملياتي والتكتيكي وكل شيء عن أسلحة الدمار الشامل، تعلمه الجيش الإسرائيلي بنفسه بفضل التجارب والأخطاء.
يعتبر الإعتماد على النفس فيما يتعلق بالتسلح أشد تعقيداً، ومع ذلك إحتفظت إسرائيل بصناعات عسكرية خاصة بها. كان اليهود قبل قيام الدولة يصنعون أسلحة صغيرة قصيرة المدى وغيرها من المعدات العسكرية. ومع مرور الزمن تطورت صناعة السلاح هذه إلى حد وصلت عنده اليوم لتكون في مصاف الدول المصنعة لأشد الأسلحة تعقيداً، رغم أنها لا زالت تعتمد إعتماداً كبيراً على الأسلحة الأجنبية وخاصة الأمريكية للحفاظ على أمنها القومي.
تعرضت إسرائيل في تاريخها لحظرين على تصدير السلاح إليها أضرا جداً بها. الأول إبان حرب الاستقلال عندما فرضت بريطانيا والولايات المتحدة حظراً على تدفق السلاح إليها، والثاني عشية حرب عام 1967 عندما أوقفت فرنسا، أكبر مصدر للأسلحة آنذاك لإسرائيل، تسليم السلاح لأورشليم لإرغام إسرائيل على الإمتناع عن القيام بعمل عسكري، علماً بأن هذين الحظرين عززا من الناحية النفسية عزم وإصرار إسرائيل على المضي قدماً في السعي إلى تحقيق الإعتماد على النفس.
على الرغم من أن صناعة السلاح الإسرائيلية ظلت صغيرة في حجمها في الفترة الواقعة ما بين الأعوام 1949 إلى 1967، إلا أنها سجلت إنجازات يعتز بها وأبرزها صناعة قنبلتين نوويتين قبل حرب عام 1967. أما بعد تلك الحرب فقد خطت صناعة السلاح الإسرائيلية خطى سريعة لتشمل صناعة الطائرات والسفن الحربية وكذلك المدفعية والصواريخ والإلكترونيات، بيد أن التطور الهائل في الحجم والتعقيد في صناعة السلاح العسكرية لم يتم إلا بعد حرب عام 1973.
تمكنت صناعة السلاح الإسرائيلية في العقود الثلاثة التي تلت تلك الحرب من تصميم وتصنيع أنواعاً كثيرة من السلاح تعجز عن ذلك أي دوله بهذا الحجم. ففي مجال أنظمة الفضاء أنتجت الصناعات الإسرائيلية أقماراً صناعية إستكشافية وصواريخ لإطلاقها، كما انتجت صواريخ بالستية طويلة المدى (سلسلة صواريخ أريحو) وصواريخ كروز طويلة المدى القادرة على حمل رؤوس حربية نووية. إستطاعت الصناعات العسكرية الإسرائيلية تطوير أنظمة صواريخ مضادة للصواريخ البالستية (صواريخ أرو) فضلاً عن أن الصناعات العسكرية الإسرائيلية أنتجت جميع أنواع الأنظمة الإستخبارية وأجهزة الرؤية الليلية.
تعتبر الصناعات العسكرية رائدة دول العالم في مجال طائرات التجسس بدون طيار وهي تصنع نوعين من هذه الطائرات، نوعاً لجمع المعلومات الإستخبارية من طراز حيرون وهيرسل وسيرتشر م.ك11، ونوعاً هجومياً مثل موب وهيربي. وقد تعتبر هذه الصناعات الأنجح في العالم من حيث تطوير أساليب التحديث بغية تحسين وزيادة عمر أنظمة التسلح القديمة. واخيراً أنتجت الصناعات العسكرية الإسرائيلية جيلاً كاملاً من أنظمة التسلح البرية كالدبابات من طراز مركفاه والعربات القتالية المدرعة من طراز أتشازيت وأنظمة المدفعية كالمدافع الرشاشة والصواريخ والمورتر والأسلحة الخفيفة والذخيرة بشتى أنواعها.
تمتلك إسرائيل مصادر تصميم وتصنيع جميع هذه الأسلحة بفضل قرارها الحكيم الذي إتخذته في الثمانينات بالإعتماد على دول أخرى وخاصة الولايات المتحدة في مجال الطائرات والسفن الحربية. والذي عزز من هذا القرار قضية إنتاج طائرة "لافي" في منتصف الثمانينات عندما لم تستطع إسرائيل في نهاية الأمر تمويل هذه الطائرة ذات التصميم المحلي، وبالتالي ظلت الإستراتيجية الصناعية القائمة على تفادي إنتاج الوسائل الحربية الجوية والبحرية ركناً من أركان سياسة الإعتماد على الأسلحة الاجنبية. ومع أن إسرائيل في القرن الحادي والعشرين تمتلك القدرة التكنولوجية والبنية الصناعية والموارد اللازمة لإنتاج الطائرات والسفن الحربية، إلا أنها لم تبدِ أي ميول نحو ذلك. ويبدو أنها كيفت نفسها على المفهوم القائل بأنه حتى لو قامت إسرائيل بتصميم وإنتاج الطائرات والسفن الحربية فهي لن تكون قادرة على إنتاج ذلك العدد الذي يمكنها من التحرر كلياً من الإعتماد على المصادر الأجنبية.
دعم القوة العظمى:
إدراكاً منه أن إسرائيل لن تكون قادرة تماماً على الإكتفاء الذاتي، وضع "ديفيد بن غوريون" أول رئيس وزراء لإسرائيل الأساس والمبدأ الذي قامت عليه النظرية الأمنية الاسرائيلية وهو أن تحصل إسرائيل بشكل دائم على دعم قوة عظمى واحدة على الأقل. إذ أن دولة صغيرة الحجم كإسرائيل تمتلك مصادر محدودة جداً، لا تريد أن تجد نفسها معزولة عن المجتمع الدولي في حالة الحرب. ورأى بن غوريون أن حماية المصالح الأمنية القومية لإسرائيل تستلزم الدعم العسكري والسياسي والإقتصادي من قوة عظمى كالولايات المتحدة. وعلى هذا الأساس إستوعبت إسرائيل هذا القول المأثور جداً. ففي كل حرب من الحروب الثلاثة التي أطلقت فيها إسرائيل الطلقة الأولى، حملة سيناء وحرب عام 1967، وحرب لبنان، حظيت إسرائيل بالدعم الضمني والصريح لهذه القوة العظمى المناصرة. في عام 1956 إنضمت فرنسا لمناصر إسرائيل في ذلك الوقت للحرب إلى جانبها عندما هاجمت بريطانيا مصر. وفي عام 1967 و1982 ضمنت إسرائيل موافقة الولايات المتحدة المبدئية على خططها العسكرية، والواقع أن دعم القوة العظمى كان في غاية الأهمية لدرجة أن الخطط العسكرية الإسرائيلية لحروب عام 1969-1970 و1973 كانت جزءاً من مصالح السياسة الخارجية الأمريكية. كان إستخدام إسرائيل للقوة في حالة الحرب أمراً حساساً جداً بالنسبة لرغبات الدول الصديقة التي تدعمها. وبناء على ذلك فقد حظيت إسرائيل بمساعدة قوة عظمى لها في كل حرب خاضتها ضد جيرانها العرب ما عدا حرب الإستقلال. وانسجاماً مع مبدأه حول دعم القوة العظمى في حالة الحرب، نصح بن غوريون بأن لا تتورط إسرائيل في مواجهة مع قوة عظمى في ساحة المعركة، وعليه فقد عملت إسرائيل بوصيته ولم تخرج عن ذلك الا في مناسبات بارزة. ففي حرب الإستقلال إشتبك الجيش الإسرائيلي مع القوات البريطانية ولاسيما في نهاية الحرب عندما أسقطت خمس طائرات تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني بواسطة المضادات الأرضية الإسرائيلية فضلاً عن أن الجيش الإسرائيلي واجه في جميع حروبه مع العرب بدءاً بحرب 1967 وانتهاءً بحرب 1982 قوات عسكرية سوفيتية علماً بأن أشهر مواجهه عسكرية إسرائيلية-سوفيتية وقعت بلا شك في أواخر حرب الإستنزاف عندما أسقطت مقاتلات سلاح الجو خمس مقاتلات سوفيتية في معركة جوية قصيرة. ومع ذلك لم يكن لهذه الحالات العرضية أية عواقب إستراتيجية طويلة الأمد.
من غير المحتمل أن يتغير مستقبلاً موقف إسرائيل حيال دعم القوة العظمى، وستظل ماضية قدما في تعزيز العلاقات المتينة القائمة بينها وبين واشنطن لأن ذلك يدعم المصالح الأمنية القومية لإسرائيل، كذلك فإن موقف إسرائيل بالنسبة لأية مواجهة عسكرية
لازال الجيش الإسرائيلي لغاية اليوم يدافع دفاعاً شديداً عن حرب المناورة الهجومية ومع ذلك فقط عدل نوعا ما من الأنماط التكتيكية والعملياتية بعد حرب عام 1973. ومن أبرز تلك التعديلات هو التحول نحو مزيج متناسق من القوات بحيث يوفر لأسلحة المدفعية والمشاة والهندسة التي كانت مهمشة في السابق، دوراً أكثر وضوحاً في التصميم التكتيكي والعملياتي للجيش الإسرائيلي. هناك جانب آخر من هذه التغيرات يشمل إعتماداً أكبر على القوة النارية لتحقيق الأهداف العسكرية. وقد ظهرت بوادر هذا التركيز على القوة النارية إبان حرب لبنان عام 1982. بيد أنه في التسعينات فقط بدأ الجيش الإسرائيلي يقر بوضوح أن التحركية لم تعد تمثل وحدها حلاً خلاقاً لما يجري في ساحة المعارك الحديثة في الشرق الأوسط.
وعلى ضوء الطبيعة المشبعة لساحة المعارك هذه التي يتقلص فيها مجال المناورة إلى حد بعيد بفعل الأعداد الهائلة من الأسلحة الموجودة في ترسانة دول الشرق الأوسط، فإن الحرب القادمة إذا ما اندلعت، ستشهد تخلي الجيش الإسرائيلي مؤقتاً عن حرب المناورة الهجومية إلى أن يتم تنفيذ حملة تمهيدية من القصف بحيث يكون قصيراً وكثيفاً يستخدم فيها صواريخ طويلة المدى موجهة بالليزر تطلق من الجو والبر والبحر ضد أهداف عسكرية وسياسية وصناعية عربية. وبغض النظر عن الطرف الذي يبادر إلى الحرب، فإن الجيش الإسرائيلي قد يسعى إلى إضعاف خصمه إلى حد يمكن عنده تنفيذ حملة المناورة الهجومية بأقل الخسائر.
الردع:
تسعى إسرائيل جاهدة، كسائر الدول الأخرى، للدفاع عن مصالح أمنها القومي بالوسائل السلمية. لقد سعت، بمعنى آخر، إلى ردع خصومها العرب وليس محاربتهم. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف إستخدمت نوعين من الردع وهما الردع العام والردع الخاص المحدود. أضف إلى ذلك أن إسرائيل مارست الردع في مجال الحرب التقليدية وغير التقليدية.
لقد ركز الردع الإسرائيلي من الناحية التاريخية على الحيلولة دون إندلاع حرب واسعة النطاق. ولذلك فقد تمحور الردع العام الإسرائيلي حول مفهوم إظهار إمتلاك القوة الفائقة. ظلت إسرائيل تردد عبارة أن بإمكان العرب إختيار وقت الحرب بينما نحن الذين نقرر مجالها ونطاقها، وقد أريد بذلك توصيل رسالة إلى الدول العربية بأن لا تبادر إلى الحرب لأن إسرائيل ستلحق بهم هزيمة يفوق ثمن الذهاب إلى الحرب، ثمن أية فوائد قد تجنيها من ورائها. من ناحية أخرى تركزت فكرة الردع الإسرائيلي حول آلية وضع الخطوط الحمراء الواضحة التي إذا تم اجتيازها فإن ذلك سيولد رداً عسكرياً صارماً. وتطرح أورشليم مثالاً على ذلك، وهو أن تحرك أي جيش أجنبي إلى الأردن سيكون سبباً للحرب لدرجة أن معاهدة السلام الإسرائيلية-الأردنية الموقعة في عام 1994 تتضمن بنداً ينص على ذلك. ولقد أوضحت إسرائيل أيضاً أن أي إغلاق لأحد ممراتها البحرية سيكون سبباً لاندلاع الحرب. والواقع هو أن الإنتهاكات العربية عام 1967 لهذه الخطوط الحمراء يفسر جزئيا قرار إسرائيل بشن الحرب الإستباقية. يكاد يكون وضع الردع الإسرائيلي بالنسبة للحروب الصغيرة والحروب التي تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل أقل وضوحاً.
ولعل مفهوم "الرد الشامل" هو الذي يهيمن على حالة الردع الإسرائيلي في مجال الحرب غير التقليدية. ومن أجل ردع أية حرب صغيرة، ظلت أورشليم تتوعد دائماً بالرد بشكل لا يتناسب مع أي عمل تقوم به المنظمات الإرهابية. ومن أجل الردع عن إستخدام أسلحة الدمار الشامل، توعدت إسرائيل بشكل واضح بإستخدام نفس الأسلوب ضد أي دولة تسول لها نفسها إستخدام هذا النوع من السلاح ضد إسرائيل. ولإضفاء مزيد من المصداقية على هذا التهديد، سعت إسرائيل بهدوء ولكن بشكل أكيد، إلى جعل قدرتها على خوض حرب نووية أكثر "شفافية".
يبدو للوهلة الأولى أن تاريخ إسرائيل المفعم بالعنف يشير بوضوح إلى أن حالة الردع الإسرائيلي لم يكن لها تأثير على خصومها العرب. هناك مثال يدعم هذا الإعتقاد حيث فشل الردع الإسرائيلي قبل عام 1967 وفي الفترة الواقعة ما بين عام 1969 وعام 1970 وقبل أعوام 1973 و 1982 و1991، علماً بأن الردع الإسرائيلي في حالة الحروب الصغيرة الذي يتضمن تنفيذ تهديدات سابقة بالرد الشامل لم يوفر علاجاً طويل الأمد لهذا المرض المزمن. ومع ذلك فقط يبدو من قبيل المبالغة الإدعاء بأن الردع الإسرائيلي ما هو إلا سراب. توجد إمكانية للتمييز بين الوقت الذي يفشل فيه الردع والوقت الذي ينجح فيه. فقد يسهل إذن تشخيص حالة الردع الإسرائيلي على أنها فشل ذريع. ولكن عندما يؤخذ بعين الإعتبار حقيقة أن أياً من الدول العربية أو المنظمات الإرهابية لم تبدِ ندماً حيال استخدام أقصى درجة من العنف في سبيل تحقيق هدف إبادة دولة إسرائيل، يتبين أن سجل الردع الإسرائيلي أكثر فاعلية، فالعراق على سبيل المثال، مع أنه لم يرتدع عن إطلاق الصواريخ البالستية على إسرائيل إبان حرب الخليج، فهو لم يحاول أبداً تسليح هذه الصواريخ برؤوس بيولوجية أو كيماوية مع وجود القدرة لديه على ذلك، ولعل تهديد إسرائيل باستخدام الأسلحة النووية هو الذي ردع العراق عن إستخدام أسلحة الدمار الشامل. وبغض النظر عن الحكم بفشل أو بنجاح سجلها، فمن غير المتوقع أن يطرأ أي تغيير ملموس على حالة الردع الإسرائيلي على الأقل في المستقبل القريب.
التهديدات التقليدية وغير التقليدية:
لقد أبتليت إسرائيل بخطر إندلاع الحروب الصغيرة والحروب واسعة النطاق على مر تاريخها، كما واجهت أيضاً خطر أسلحة الدمار الشامل معظم عمرها. ومع ذلك فإن تأثير هذه التهديدات على نظرية الأمن القومي الإسرائيلي تغير بشكل واضح مع مرور الزمن. وخير دليل على ذلك هو التباين الواضح بين ما كان يجري في مرحلة ما قبل وما بعد حرب أكتوبر. ففي مرحلة ما قبل عام 1973، كانت النظرية الأمنية الإسرائيلية تركز تركيزاً كبيراً على خطر نشوب حرب واسعة النطاق. وقد إعترف المخططون العسكريون الإسرائيليون بأن المناوشات الحدودية مع الدول العربية والإرهاب الفلسطيني يمثلان تهديدا مزمناً يتوجب على الجيش الإسرائيلي الإعداد له جيداً. أخذت إسرائيل خطر أسلحة الدمار الشامل مأخذ الجد لدرجة أنها كانت تنظر في الستينيات في إمكانية توجيه ضربة للجهود المصرية لاقتناء أسلحة الدمار الشامل كالأسلحة الكيماوية. لكن هؤلاء المخططين لم يروا في هذه التهديدات خطراً حقيقيا على وجود الدولة وذلك على العكس مما هو عليه الحال بالنسبة لتهديد الحرب التقليدية، وإذا ما أُخذ بالحسبان حجم المخصصات الدفاعية للدولة في مرحلة ما قبل عام 1973، فذلك يشير إلى أن المخططين العسكريين إعتبروا الحرب الشاملة أعظم خطر يواجه إسرائيل في تلك المرحلة. والواقع أن نسبة ضئيلة من هذه المخصصات إستثمرت في الحدود الخارجية على شكل نقاط مراقبة ودوريات لحرس الحدود ووحدات لمكافحة الإرهاب وإقامة حقول الغام. والواقع أيضاً، أن نسبة ضئيلة من الركائز والمقومات الدفاعية خصصت لتطوير الأسلحة النووية (سلاح الخيار الأخير) وكذلك لتجهيز الجيش الإسرائيلي بمعدات الوقاية من الأسلحة الكيماوية. بيد أن أغلب المصادر خصصت لخوض حرب تقليدية، بمعنى آخر، لشراء الطائرات الحربية والدبابات والعربات المدرعة والمدفعية…الخ.
أما في مرحلة ما بعد حرب عام 1973، فقد إستمر المخططون العسكريون الإسرائيليون في إعتبار الحرب التقليدية تهديداً رئيساً على وجود الدولة. وخير شاهد على ذلك أن الجيش الإسرائيلي يملك الآن ما يزيد على 12 لواءً مدرعاً و 4 الوية مؤألله. ومع ذلك فقد تبين أن خطر الحروب الصغيرة وأسلحة الدمار الشامل على وجود الدولة هو أعظم من أي وقت مضى. نشأ الوضع السابق مع إندلاع الإنتفاضة 1987-1993، وظهور حزب الله في التسعينيات، أما الوضع الأخير فقد نجم عن إنتشار الصواريخ البالستية وأسلحة الدمار الشامل في مختلف أنحاء الشرق الأوسط لا سيما في العقدين الماضيين.
إنعكس بروز تهديد الحرب غير التقليدية على تخصيص الموارد العسكرية الإسرائيلية منذ حرب أكتوبر 1973. وبينما لازالت الدولة ماضية قدماً في توظيف معظم مصادرها في الإعداد للحرب التقليدية، فإن هناك مصادر كثيرة إستنزفها الإعداد للحرب غير التقليدية خصوصاً منذ الثمانينيات فصاعداً. ومع إندلاع الإنتفاضة أواخر الثمانينيات، انشأ الجيش الإسرائيلي وحدات للعمليات الخاصة التي كرست جل مهامها للتعامل مع الحروب الصغيرة، فقد شكلت وحدتا سييرت شمشون وسييرت دوبدوبان على سبيل المثال لهدف واحد هو تصفية قادة المنظمات الإرهابية. وقد لوحظ عمل وحدات المستعربين في الإنتفاضة الأخيرة. وعلى نفس النمط، شكل الجيش الإسرائيلي وحدة أغوز رسمياً لخوض معارك كوماندوز ضد حزب الله.
المثير في الأمر هو طبيعة الرد الإسرائيلي على تهديدات أسلحة الدمار الشامل، ولردع أي دولة عربية عن إستخدام مثل هذه الأسلحة. سعت إسرائيل على ما يبدو إلى اقتناء ترسانة ضخمة ومتنوعة من الأسلحة النووية التي تضم قنابل تسقط من الجو ورؤوساً حربية تطلق بواسطة صواريخ بالستية وكذلك صواريخ كروز من غواصات تحت الماء، بمعنى آخر، تملك إسرائيل ما يؤمن لها القدرة على "الضربة الثانية"، أما بالنسبة للاجراءات الدفاعية الفعالة فقد طورت إسرائيل أسلحة طويلة المدى وأنظمة لجمع المعلومات الإستخبارية مما يؤهلها للتصدي لأي سلاح من أسلحة الدمار الشامل.
يقال أن الجيش الإسرائيلي يعكف منذ نهاية التسعينات على بناء "قيادة إستراتيجية" تتألف من سلاح الإستخبارات وسلاح الجو ووحدات المهام الخاصة بحيث تكون قادرة على تنفيذ مهام بعيدة جداً عن الحدود الإسرائيلية للدفاع عن أمن الدولة ضد خطر أسلحة الدمار الشامل. ومع ذلك لم يغفل الجيش بعد حرب الخليج عن تشكيل جبهة قيادة داخلية لتمكين الشعب الإسرائيلي من حماية نفسه ضد خطر أسلحة الدمار الشامل. وباختصار فإن ظهور خطر التهديدات غير التقليدية جعل الجيش الإسرائيلي يختلف جداً عن الجيش الذي ظهر بعد حرب أكتوبر عام 1973.
الإعتماد على النفس:
حرص اليهود في مرحلة ما قبل إنشاء الدولة حرصاً شديداً على الإعتماد على أنفسهم فيما يتعلق بالقضايا الأمنية، وذلك لهدفين، الأول: وهو دحض الأسطورة المناهضة للسامية القائلة بأن اليهودي إنسان هزيل وضعيف، والثاني: للوفاء بمتطلبات الدفاع عن السكان اليهود ضد أعدائهم العرب. استعد اليهود للدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم وقد تجلى ذلك في الجهود الصهيونية منذ البداية لترث إسرائيل هذا المبدأ فيما بعد. يمكن تقسيم مفهوم الإعتماد على النفس إلى ثلاثة أجزاء منفصلة: الإعتماد على النفس فيما يتعلق بالطاقة البشرية، الإعتماد على النفس في التدريب والنظرية، والإعتماد على النفس في السلاح. إسرائيل لم تستخدم الطاقة البشرية الأجنبية إلا في ثلاث مناسبات فقط، وفي مناسبة واحدة فقط من هذه المناسبات الثلاث أثبتت الطاقة البشرية العسكرية الأجنبية أهميتها في تحسين فرص إسرائيل في الحرب.
الأولى كانت إبان حرب الإستقلال عندما خدم المتطوعون اليهود وغير اليهود جنباً إلى جنب في الجيش الإسرائيلي الناشئ. كان عدد المتطوعين الأجانب لا يتناسب مع عدد الجنود الذين يتطلب منهم إبداء مهارات فنية خاصة كما هو جاري في سلاح الجو والبحرية. أما المناسبة الثانية فقد حدثت إبان حملة سيناء عندما طلبت أورشليم من فرنسا بأن ترابط مقاتلات فرنسية إعتراضية في قواعد سلاح الجو الإسرائيلي للحيلولة دون تمكين المقاتلات المصرية من الوصول إلى المدن الاسرائيلية، بينما حدثت المناسبة الثالثة إبان حرب الخليج عندما طلبت إسرائيل إرسال بطاريات صواريخ مضادة للصواريخ من طراز باتريوت يقوم بتشغيلها طاقم هولندي لإسقاط الصواريخ العراقية التي تستهدف المدن الإسرائيلية. بالنسبة للمقاتلات الفرنسية فقد ثبت أنه لم يكن لها أي ضرورة لأنه لم يحدث أن تمكنت أي من المقاتلات المصرية من إختراق الأجواء الإسرائيلية في حين لم يكن لبطاريات صواريخ باتريوت سوى الطمأنة النفسية للجمهور الإسرائيلي. باختصار لقد حققت إسرائيل أعظم مستوى من الدفاع عن النفس.
نفس الشيء يمكن أن يقال عن التدريب والنظرية. لقد درس عدد قليل من ضباط الجيش الإسرائيلي في أكاديميات عسكرية غربية، كما تدرب عدد قليل أيضاً من الجنود الإسرائيليين على أيدي ضباط في الجيوش الغربية للتعلم على كيفية تشغيل الأسلحة الحديثة. ومع ذلك يتباهى الجيش الإسرائيلي بأنه لم يبحث إطلاقاً عن التوجيه والإرشاد الأجنبي من حيث التدريب والنظرية على خلاف ما جرى في دول ما بعد الحرب العالمية الثانية. فكل شيء عن إدارة الحروب الصغيرة وكل شيء عن إدارة الحروب واسعة النطاق على المستويين العملياتي والتكتيكي وكل شيء عن أسلحة الدمار الشامل، تعلمه الجيش الإسرائيلي بنفسه بفضل التجارب والأخطاء.
يعتبر الإعتماد على النفس فيما يتعلق بالتسلح أشد تعقيداً، ومع ذلك إحتفظت إسرائيل بصناعات عسكرية خاصة بها. كان اليهود قبل قيام الدولة يصنعون أسلحة صغيرة قصيرة المدى وغيرها من المعدات العسكرية. ومع مرور الزمن تطورت صناعة السلاح هذه إلى حد وصلت عنده اليوم لتكون في مصاف الدول المصنعة لأشد الأسلحة تعقيداً، رغم أنها لا زالت تعتمد إعتماداً كبيراً على الأسلحة الأجنبية وخاصة الأمريكية للحفاظ على أمنها القومي.
تعرضت إسرائيل في تاريخها لحظرين على تصدير السلاح إليها أضرا جداً بها. الأول إبان حرب الاستقلال عندما فرضت بريطانيا والولايات المتحدة حظراً على تدفق السلاح إليها، والثاني عشية حرب عام 1967 عندما أوقفت فرنسا، أكبر مصدر للأسلحة آنذاك لإسرائيل، تسليم السلاح لأورشليم لإرغام إسرائيل على الإمتناع عن القيام بعمل عسكري، علماً بأن هذين الحظرين عززا من الناحية النفسية عزم وإصرار إسرائيل على المضي قدماً في السعي إلى تحقيق الإعتماد على النفس.
على الرغم من أن صناعة السلاح الإسرائيلية ظلت صغيرة في حجمها في الفترة الواقعة ما بين الأعوام 1949 إلى 1967، إلا أنها سجلت إنجازات يعتز بها وأبرزها صناعة قنبلتين نوويتين قبل حرب عام 1967. أما بعد تلك الحرب فقد خطت صناعة السلاح الإسرائيلية خطى سريعة لتشمل صناعة الطائرات والسفن الحربية وكذلك المدفعية والصواريخ والإلكترونيات، بيد أن التطور الهائل في الحجم والتعقيد في صناعة السلاح العسكرية لم يتم إلا بعد حرب عام 1973.
تمكنت صناعة السلاح الإسرائيلية في العقود الثلاثة التي تلت تلك الحرب من تصميم وتصنيع أنواعاً كثيرة من السلاح تعجز عن ذلك أي دوله بهذا الحجم. ففي مجال أنظمة الفضاء أنتجت الصناعات الإسرائيلية أقماراً صناعية إستكشافية وصواريخ لإطلاقها، كما انتجت صواريخ بالستية طويلة المدى (سلسلة صواريخ أريحو) وصواريخ كروز طويلة المدى القادرة على حمل رؤوس حربية نووية. إستطاعت الصناعات العسكرية الإسرائيلية تطوير أنظمة صواريخ مضادة للصواريخ البالستية (صواريخ أرو) فضلاً عن أن الصناعات العسكرية الإسرائيلية أنتجت جميع أنواع الأنظمة الإستخبارية وأجهزة الرؤية الليلية.
تعتبر الصناعات العسكرية رائدة دول العالم في مجال طائرات التجسس بدون طيار وهي تصنع نوعين من هذه الطائرات، نوعاً لجمع المعلومات الإستخبارية من طراز حيرون وهيرسل وسيرتشر م.ك11، ونوعاً هجومياً مثل موب وهيربي. وقد تعتبر هذه الصناعات الأنجح في العالم من حيث تطوير أساليب التحديث بغية تحسين وزيادة عمر أنظمة التسلح القديمة. واخيراً أنتجت الصناعات العسكرية الإسرائيلية جيلاً كاملاً من أنظمة التسلح البرية كالدبابات من طراز مركفاه والعربات القتالية المدرعة من طراز أتشازيت وأنظمة المدفعية كالمدافع الرشاشة والصواريخ والمورتر والأسلحة الخفيفة والذخيرة بشتى أنواعها.
تمتلك إسرائيل مصادر تصميم وتصنيع جميع هذه الأسلحة بفضل قرارها الحكيم الذي إتخذته في الثمانينات بالإعتماد على دول أخرى وخاصة الولايات المتحدة في مجال الطائرات والسفن الحربية. والذي عزز من هذا القرار قضية إنتاج طائرة "لافي" في منتصف الثمانينات عندما لم تستطع إسرائيل في نهاية الأمر تمويل هذه الطائرة ذات التصميم المحلي، وبالتالي ظلت الإستراتيجية الصناعية القائمة على تفادي إنتاج الوسائل الحربية الجوية والبحرية ركناً من أركان سياسة الإعتماد على الأسلحة الاجنبية. ومع أن إسرائيل في القرن الحادي والعشرين تمتلك القدرة التكنولوجية والبنية الصناعية والموارد اللازمة لإنتاج الطائرات والسفن الحربية، إلا أنها لم تبدِ أي ميول نحو ذلك. ويبدو أنها كيفت نفسها على المفهوم القائل بأنه حتى لو قامت إسرائيل بتصميم وإنتاج الطائرات والسفن الحربية فهي لن تكون قادرة على إنتاج ذلك العدد الذي يمكنها من التحرر كلياً من الإعتماد على المصادر الأجنبية.
دعم القوة العظمى:
إدراكاً منه أن إسرائيل لن تكون قادرة تماماً على الإكتفاء الذاتي، وضع "ديفيد بن غوريون" أول رئيس وزراء لإسرائيل الأساس والمبدأ الذي قامت عليه النظرية الأمنية الاسرائيلية وهو أن تحصل إسرائيل بشكل دائم على دعم قوة عظمى واحدة على الأقل. إذ أن دولة صغيرة الحجم كإسرائيل تمتلك مصادر محدودة جداً، لا تريد أن تجد نفسها معزولة عن المجتمع الدولي في حالة الحرب. ورأى بن غوريون أن حماية المصالح الأمنية القومية لإسرائيل تستلزم الدعم العسكري والسياسي والإقتصادي من قوة عظمى كالولايات المتحدة. وعلى هذا الأساس إستوعبت إسرائيل هذا القول المأثور جداً. ففي كل حرب من الحروب الثلاثة التي أطلقت فيها إسرائيل الطلقة الأولى، حملة سيناء وحرب عام 1967، وحرب لبنان، حظيت إسرائيل بالدعم الضمني والصريح لهذه القوة العظمى المناصرة. في عام 1956 إنضمت فرنسا لمناصر إسرائيل في ذلك الوقت للحرب إلى جانبها عندما هاجمت بريطانيا مصر. وفي عام 1967 و1982 ضمنت إسرائيل موافقة الولايات المتحدة المبدئية على خططها العسكرية، والواقع أن دعم القوة العظمى كان في غاية الأهمية لدرجة أن الخطط العسكرية الإسرائيلية لحروب عام 1969-1970 و1973 كانت جزءاً من مصالح السياسة الخارجية الأمريكية. كان إستخدام إسرائيل للقوة في حالة الحرب أمراً حساساً جداً بالنسبة لرغبات الدول الصديقة التي تدعمها. وبناء على ذلك فقد حظيت إسرائيل بمساعدة قوة عظمى لها في كل حرب خاضتها ضد جيرانها العرب ما عدا حرب الإستقلال. وانسجاماً مع مبدأه حول دعم القوة العظمى في حالة الحرب، نصح بن غوريون بأن لا تتورط إسرائيل في مواجهة مع قوة عظمى في ساحة المعركة، وعليه فقد عملت إسرائيل بوصيته ولم تخرج عن ذلك الا في مناسبات بارزة. ففي حرب الإستقلال إشتبك الجيش الإسرائيلي مع القوات البريطانية ولاسيما في نهاية الحرب عندما أسقطت خمس طائرات تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني بواسطة المضادات الأرضية الإسرائيلية فضلاً عن أن الجيش الإسرائيلي واجه في جميع حروبه مع العرب بدءاً بحرب 1967 وانتهاءً بحرب 1982 قوات عسكرية سوفيتية علماً بأن أشهر مواجهه عسكرية إسرائيلية-سوفيتية وقعت بلا شك في أواخر حرب الإستنزاف عندما أسقطت مقاتلات سلاح الجو خمس مقاتلات سوفيتية في معركة جوية قصيرة. ومع ذلك لم يكن لهذه الحالات العرضية أية عواقب إستراتيجية طويلة الأمد.
من غير المحتمل أن يتغير مستقبلاً موقف إسرائيل حيال دعم القوة العظمى، وستظل ماضية قدما في تعزيز العلاقات المتينة القائمة بينها وبين واشنطن لأن ذلك يدعم المصالح الأمنية القومية لإسرائيل، كذلك فإن موقف إسرائيل بالنسبة لأية مواجهة عسكرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى